0.1 - تصدير للمجلد الثالث
لقد ترك لنا الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي، رضي الله عنه، تراثاً عظيمًا من العلوم والمعارف والحِكم التي نثرها بين صفحات مئات المصنّفات التي يتراوح حجمها ما بين بضع صفحات إلى عشرات المجلدات. ولقد ذكرنا من قبل أنّ الكثير من المؤرّخين أجمعوا على أنه كان مؤلّفًا فذًّا متميّزاً بالكمّ والكيف. كذلك فقد ذكرنا في القسم 2.3، من الجزء الأوّل، أنّه دخل طريق التصوّف في مرحلة مبكرة من حياته وفُتح عليه بهذه العلوم الكشفية الذوقية في وقت قصير، وكان ذلك حوالي سنة 580/1184، ولم يكن قد أكمل العقد الثاني من عمره بعد.
من أجل ذلك نجد أنّ الشيخ محي الدين قد بدأ الكتابة كذلك في مرحلة مبكّرة، وإن كّنا لا نعرف على وجه التحديد عنوان أوّل كتاب ألّفه وتاريخه، لكنّنا نجد العديد من العناوين البارزة من من بين أوائل كتبه التي ألّفها في العقدين التاليين، قبل أن يترك المغرب العربي، مثل كتاب التدبيرات الإلهية وكتاب عنقاء مغرب وكتاب الإسرا إلى المقام الأسرى، وأغلبها كتبت خلال العقد الأخير من القرن السادس الهجري. لكنّنا نعلم كذلك أنّ هذه العناوين ليست الأقدم، لأنّه ذكر في ثناياها بعض الرسائل الأخرى، التي كان قد ألّفها من قبل، والتي فقدت أو دمجت في كتب أخرى لاحقة مثل الفتوحات المكيّة.
من خلال دراسة هذه الكتب الأولى التي كتبها في المرحلة المغربية نجد أنّ الموضوع الأساسي الذي تدور حوله هو المناظرة، أو المضاهاة، بين الإنسان والكون؛ باعتبار أنّ الإنسان عالَمٌ صغير والكون إنسانٌ كبير.
فيما عدى ذلك، فمن الواضح أيضاً أنّ من أوائل الموضوعات التي اهتمّ بها الشيخ محي الدين في تلك الفترة هي الحديث والتفسير، حيث قد أشرنا من قبل، في القسم 2.3.9 من الجزء الأول، إلى الرؤيا التي ذكرها في رسالة المبشرات المنامية، والتي جعلته يتفرّغ لدراسة الأحاديث النبوية الشريفة، وكان ذلك قبل سنة 586/1190. لذلك فإنّ من بين الكتب أو التعليقات الكثيرة التي كتبها في ذلك الوقت نجد: "الأحاديث القدسية"، "اختصار الترمذي"، "اختصار البخاري"، "اختصار السيرة النبوية المحمدية"، "اختصار المحلى"، "اختصار مسلم"، "كتاب الأربعين حديثا الطوالات"، "كتاب الأربعين المتقابلة في الحديث"، "المصباح في الجمع بين الصحاح"، "مشكاة الأنوار فيما روي عن الله من الأخبار"، غير أن أغلب هذه الكتب لا يزال مفقوداً، كما هو أيضاً حال التفسير الكبير للقرآن الكريم الذي ذكره في مقدمة الفتوحات المكية تحت عنوان ”الجمع والتفصيل في حقائق التنزيل” وبيّن محتواه في رسالة الفهرس.
كذلك من أوائل الكتب التي كتبها الشيخ في المرحلة المغربية نذكر كتاب مبايعة القطب، كتاب مناهج الارتقاء، كتاب عقلة المستوفز، كتاب مفتاح أقفال الإلهام الوحيد، وكتاب الآباء العلوية والأمهات السفلية، وكتاب الأجوبة على المسائل المنصورية.
زيادة على جميع هذه الكتب والموضوعات الفريدة، فبعد أن وصل الشيخ الأكبر إلى مكة المكرّمة، سنة 598/1201، زاد بشكل واضح انتاجه في تأليف الكتب التي افتتحها بالفتوحات المكية الذي يُعدّ من أكبر مؤلفاته وأوسعها وأعظمها تأثيراً، والذي استغرق في كتابته حوالي ثلاثين سنة، ليكمله بعد أن استقرّ في دمشق سنة 629/1232، ثم يعيد كتابته مرة أخرى في الفترة بين سنة 632/1235 إلى 636/1239.
وفي دمشق كذلك، كتب الشيخ أهم كتبه على الإطلاق، وهو فصوص الحكم، فهو وإن كان أصغر من الفتوحات بالحجم، إلا أنه لا ينقص عنه بالأهمية وقيمة المحتوى، حيث يضم سبعة وعشرين فصًّا، أو حكمة، سمّيت بأسماء بعض الأنبياء الذين يتميّزون بمزايا روحانية محددة، ويحوي بين دفتيه معارف عميقة وحِكماً لا يُدرك مداها.
إضافة إلى ذلك، فقد كتب الشيخ الأكبر عدة مئات من الأعمال الأخرى، وإن كان أكثرها أقل شهرة من هذه العناوين التي ذكرناها، وأغلبها متاح الآن في شكل مطبوع، في حين لا يزال بعضها مخطوطاً، وهناك الكثير من العناوين التي لا تزال مفقودة.
خلال القرون التي تلت وفاته، رحمه الله، بدأت كتبه تنتشر بكثافة في شتى مناطق العالم الإسلامي الممتد من المغرب العربي إلى دول شرق آسيا، ومن الجزيرة العربية إلى بلاد الأناضول. ومع هذا الانتشار الواسع، وبسبب كثرة التداول وكثرة النسخ، نسبت إليه كتب كثيرة ليست له على الحقيقة، وذلك إما بسبب أخطاء النسّاخ وضياع الصفحات الأولى، التي عادة ما تحوي العنوان واسم المؤلف، أو بهدف الترويج لبعض الموضوعات الروحانية المغرضة التي كان الكثير من الناس يرغب في اقتنائها. وفي نفس الوقت فإن الكثير من كتبه المهمّة فُقدت، وبعضها أثناء حياته كما أشار إلى ذلك في مقدمة الفهرست.
لذلك نجد أنه قد نُسب إليه أكثر من 850 كتابًا أكثرها ملفق أو لا يمكن التحقق من نسبته إليه. لذلك يجب التحقق بشكل دقيق من أي عنوان ينسب إلى الشيخ محي الدين قبل طبع ونشره. ولحسن الحظ فإنّ ذلك ليس بالأمر الصعب، بسبب وجود مراجع واضحة ومؤكّد نسبتها إليه يذكر فيها الكثير من أسماء مصنفاته. كذلك لحسن الحظ، وبناءً على هذه المصادر الموثوقة وغيرها، فلا يوجد عندنا أيّ شكّ في صحّة نسبة جميع الكتب الأمّهات التي تنسب للشيخ محي الدين، لكن هناك بعض الإشكاليات في نسبة بعض الرسائل الصغيرة، في حين إنّ الكثير من العناوين التي نسبت إليه بشكل خاطئ هي في الحقيقة لبعض تلاميذه أو بعض الشيوخ المعاصرين الذين ينتمون للمدرسة نفسها، ويمكننا التحقق من ذلك بسهولة لدى مراجعة عدد أكبر من المخطوطات التاريخية.
لقد ذكر الشيخ محي الدين في رسالة فهرست المصنفات ما يزيد عن 250 عنوانًا من كتبه التي استطاع أن يتذكرها في ذلك الوقت، ويزيد هذا العدد إلى أكثر من 300 عندما نضيف له العناوين الأخرى التي أشار إليها في كتبه المختلفة المؤكدة، بما في ذلك الإجازة التي كتبها إلى أحد الملوك الأيوبيين.
سوف نستخلص في هذا الجزء قائمة موثّقة بعناوين مصنّفات الشيخ الأكبر، وذلك بناءً على رسالة الفهرست، بعد تحقيقها اعتمادًا على أقدم المخطوطات المكتوبة بخط ربيبه الشيخ صدر الدين القونوي. كذلك سوف نحقق الإجازة التي كتبها الشيخ محي الدين للملك المظفر الأيوبي، ملك ميافارقين، وإن كنّا سنجد أنّ هذه الإجازة لا تضيف الكثير من العناوين، بل إنّ الدراسة توضّح أنها العناوين المذكورة فيها منقولة عن الفهرس نفسه وبنفس الترتيب، في حين إنّ أغلب الخلافات بينهما ناتجة عن سوء النسخ والتصحيف. كذلك سوف نكمل هذه القائمة من العناوين التي ذكرها الشيخ في ثنايا كتبه الأخرى المعروفة والمؤكد نسبتها إليه، إضافة إلى بعض المصادر الأخرى التي سنشرحها في المقدمة.