2.3 - دخوله الطريق (~ 580/1184)
لقد كان ينتظر محمداً مستقبلٌ مشرقٌ في بلاط السلطان مثله مثل أبيه عليّ العربي، حيث وُعد بمنصب كاتبٍ في الديوان كما ذكر ابن العبّار في "التكملة".[133]ولكن محمداً لم يكن يتجه بهذا الاتجاه، وكأن مستقبلاً آخراً، أكثر إشراقاً وأكثر سعادةً في الدنيا وفي الآخرة، كان يُرسم له من حيث لا يدري، وهو التصوُّف والزهد والتفرُّغ لعبادة الله سبحانه وتعالى.
وكما رأينا أعلاه فإنّ ميول محمّد كانت منذ فترة طفولته تتّجه نحو أهل الله من الفقراء والعبّاد وكان يدافع عنهم ويؤويهم. ومع مصاحبته لهؤلاء الفقراء أمثال عبد الله القطّان وصحبته لمحمد الخيّاط الذي دخل طريق التصوّف أيضاً فكان مثالا لأخيه أحمد ولمحمد ابن العربي.
ولكن، على الرغم من ميوله المبكّر إلى طريق التصوّف، لا نعرف على وجه التحديد متى دخل الشيخ محي الدين فعليّا في هذا الطريق ولا كيفيّة ذلك. وعلى الرغم مما توحيه بعض القصص حوله وحتّى بعض أقواله في الفتوحات والمكية وغيرها، فإن ابن العربي لم يتحوّل إلى التصوف بشكل مفاجئ عن طريق ما يُعرف بالجذبة بعد فراره من حفلة مجون كان يُقدَّم فيها الخمر، كما يقول بعض الرواة. فحتى لو كانت هذه القصة صحيحة فهذا لا يعارض أن الشيخ كان كثيراً ما تراوده الرغبة في الزهد والعزلة مع نفسه ولكنه ربّما تردد قليلا قبل أن يُقدِم على مثل هذه الخطوة الجريئة. ومثل هذا التردّد أمرٌ طبيعيٌّ لأن الإنسان لا يستطيع أن يفارق تعلّقه بالدنيا وملذّاته خاصة وإن كان قد أوتي منها الكثير، فيذكر الإمام أبو حامد الغزالي مثلا أنه بقي سنوات طوالا يتردّد في دخول طريق الله ويعتزل الناس والجاه والمال، إلى أن أقدم على ذلك. صحيح أن الشيخ محي الدين يقول إن فتحه كان نتيجة جذبة كما سنرى بعد قليل، ولكن ذلك كما قلنا لا يعني أنه قد دخل طريق التصوّف بهذا الشكل، بل من المرجّح أنّه كان يتهيّأ إلى ذلك منذ طفولته.
على كلّ حال نحن نعرف من خلال النصوص التي تركها لنا الشيخ محي الدين أن دخوله طريق التصوّف قد حصل قبل أن يتمّ العقد الثاني من عمره، أي قبل سنة 580/1184، كما ذكر هو نفسه في الفتوحات المكية في أثناء حديثه عن بعض المقامات التي ينالها المقرّبون، فقال: "ونلت هذه المقامات في دخولي هذه الطريقة سنة ثمانين وخمسمائة في مدة يسيرة."[134]وقد حصل ذلك أيضاً بعد وفاة عمّه عبد الله، كما رأينا أعلاه، والذي دخل طريق التصوف وكان عمره ثمانين سنة ثم مات في الثالثة والثمانين من العمر قبل أن يدخل محمد التصوف. ولكن هذا لا يعني بالضرورة أنه دخل الطريق في هذه السنة وإنما قد يكون قبل ذلك بقليل. ورغم أنه نال هذه المقامات بسرعة فهذا لا يعني كما قلنا أن دخول ابن العربي الطريق كان نتيجة جذبة، ولكنه وصل للفتح بنتيجة هذه الجذبة، كما سنرى معنى ذلك بعد قليل.
وقد ذكرت الباحثة كلوديا عدّاس[135]أنه ربما يكون دخول الشيخ محي الدين في الطريق قبل سنة 580/1184 بكثير، لا سيما وأنه يذكر أن لقاءه الشهير بابن رشد، الذي سنذكره في آخر هذا الفصل، قد تمّ في مرحلة من عمره كان "ما يزال صبيّاً ما بَقُل وجهُه ولا طرَّ شاربُه"، وهذا قد يوحي أن ذلك حصل قبل سنة 580/1184 بعدّة سنوات. ولكنّ هذا التحليل لا يبدو مقنعا رغم ما فيه من بعض الدلائل القويّة وذلك لأنّنا لا نجد نشاطا فعليّا للشيخ محي الدين ابن العربي إلا في سنة 586/1191 وهو يقول كما سنفصّل ذلك أدناه أنه لمّا دعاه الله تعالى إليه أجابه مدّة ثم حصلت عنده فترة، وهي الفترة المعلومة في الطريق عند أهل الله التي لا بدّ منها. فإذا كان قد نال المقامات التي ذكرناها أعلاه سنة 580/1184 كما قال هو عن نفسه فلا يبدو أن ذلك حصل بعد الفترة، لأن الفترة تبدو أنها حصلت بين سنة 580 وسنة 585 حيث لا يوجد له نشاطٌ يُذكر فيها رغم أنه قد أصبح شابّا، فلو كانت الفترة قبل سنة 580 لوجدنا على الأقل بعض الأحداث المهمة بعد ذلك وقبل سنة 585. وسوف نجد أيضاً في الفصل الرابع دليلا قويّا آخرا يؤكّد أنّ دخول الشيخ محي الدين في طريق التصوّف لا يمكن أن يكون قبل سنة 580 لأنّه يقول إنه بقي نحوا من ثمان وثلاثين سنة عازفا عن النساء والزواج إلى أن أتاه الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم الذي يذكر فيه أن الله حبّب إليه من الدنيا ثلاث ومنها النساء، وكان ذلك في مكة سنة 598/1201 بعد أن تعرّف على الشيخ أبي شجاع الأصفهاني إمام الحرم الإبراهيمي وعلى ابنته نظام التي كتب لها ترجمان الأشواق وربّما تزوّجها أو خطبها كما سنتحدّث عن ذلك بالتفصيل في وقته.
فقد كان إذا محمّد يميل إلى التصوّف منذ صغره، فعندما حان الوقت وشاء الله تعالى قضاء ما قد قدّره، اعتزل ابن العربي في إحدى المقابر خارج البلد وهناك وبدون طول مقدمات أتاه الفتح من الله تعالى بشكل مفاجئ من غير جهاد أو رياضة ولا سلوك طريق طويل كما هو الأمر عادة مع أغلب الصوفية. لقد ذكر لاحقا بعض تلاميذه مثل هذه الرواية كما سنرى بعد قليل. والشيخ محي الدين نفسه قد ذكر مثلا في الفتوحات المكية بوضوح أن فتحه قد تقدّم على رياضته، مع أنه التزم بعد ذلك مع بعض شيوخ الصوفية ولو أنه لم تكن على الحقيقة علاقتُه بهم كما هي عادةً علاقة أيّ مريد بشيخه المرشد والتي عادة ما تكون علاقة تعليم واتّباع من المريد للمرشد حتى يأخذ بيده إلى أن يفتح الله عليه. ولكن بما أن الشيخ محي الدين كان على الحقيقة مُراداً قبل أن يكون مريداً ولذلك تمّ فتحه بوقتٍ قصيرٍ جداً وبلغ مراتب الشيوخ رغم صغر سنه، فلذلك كانت علاقته بشيوخه علاقة انتفاع متبادل فتعلّم منهم وعلّمهم، مثل الشيخ أبي يعقوب يوسف الكومي الذي يقول عنه:
وما راضني أحدٌ من مشايخي سواه، فانتفعت به في الرياضة، وانتفع بنا في مواجيده. فكان لي تلميذاً وأستاذاً وكنت له مثل ذلك. وكان الناس يتعجبون من ذلك ولا يعرف واحدٌ منهم سبب ذلك، وذلك سنة ست وثمانين وخمسمائة. فإنه كان قد تقدّم فتحي على رياضتي، وهو مقام خطر، فأفاء الله عليّ بتحصيل الرياضة على يد هذا الشيخ جزاه الله عني كل خير.[136]
وكذلك نجد أن الشيخ محي الدين كان منذ بدايته في مراتب الشيوخ الكبار رغم صغر سنه وحداثته، فكان بعض الناس من الذين ليس لهم قَدم في طريق التصوّف يثقون به أكثر مما يثقون بغيره من الشيوخ كما كان حال الخطيب أبي القاسم ابن عفير حين كان الشيخ أبو عمران الميرتيلي، الذي سنذكره بعد قليل، يحاول إقناعه بأحوال أهل التصوف:
وسمعت شيخنا أبا عمران موسى بن عمران الميرتلي بمنزله بمسجد الرضي بإشبيلية وهو يقول للخطيب أبي القاسم بن عفير، وقد أنكر أبو القاسم ما يذكر أهل هذه الطريقة: يا أبا القاسم لا تفعل فإنك إن فعلت هذا جمعنا بين حرمانين: لا نرى ذلك من نفوسنا ولا نؤمن به من غيرنا وما ثَمّ دليلٌ يردّه ولا قادحٌ يقدح فيه شرعاً وعقلاً، ثم استشهدني على ما ذكره، وكان أبو القاسم يعتقد فينا، فقرّرت عنده ما قاله بدليلٍ يسلّمه من مذهبه، فإنه كان محدّثا، فشرح الله صدره للقبول وشكرني الشيخ ودعا لي.[137]