6.4.5 - حوار مع معتوه
روى الشيخ محي الدين رضي الله عنه ما شهده من بعض هؤلاء العقلاء المجانين وعاشرهم واقتبس منهم فوائد كثيرة؛ فمرة رأى واحداً منهم والناس قد اجتمعوا عليه وهو ينظر إليهم وهو يقول لهم: أطيعوا الله يا مساكين فإنكم من طين خلقتم وأخاف عليكم أن تطبخ النار هذه الأواني فتردّها فخاراً، فهل رأيتم قط آنية من طين تكون فخاراً من غير أن تطبخها نار، يا مساكين لا يغرنّكم إبليس بكونه يدخل النار معكم وتقولون له يقول الله تعالى ﴿لأملأنّ جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين﴾، فإبليس خلقه الله من نار فهو يرجع إلى أصله وأنتم من طين تتحكم النار في مفاصلكم. يا مساكين انظروا إلى إشارة الحق في خطابه لإبليس بقوله تعالى ﴿لأملأن جهنم منك﴾ وهنا قف ولا تقرأ ما بعدها! فقال له: جهنم منك! وهو قوله تعالى ﴿خلق الجانّ من مارج من نار﴾، فمن دخل بيته وجاء إلى داره واجتمع بأهله ما هو مثل الغريب الوارد عليه فهو رجع إلى ما به افتخر: ﴿قال أنا خير منه خلقتني من نار﴾ فسروره رجوعه إلى أصله. وأنتم يا مناحيس تتفخّر بالنار طينتكم فلا تسمعوا من إبليس ولا تطيعوا واهربوا إلى محل النور تسعدوا. يا مساكين أنتم عمي ما تبصرون الذي أبصره. ألا تقولون سقف هذا المسجد ما يمسكه إلا هذه الأسطوانات؟ أنتم تبصرونها أسطوانات من رخام وأنا أبصرها رجالاً يذكرون الله ويمجدّونه، بالرجال تقوم السموات فكيف هذا المسجد! ما أدري إما أنا هو الأعمى لا أبصر الأسطوانات حجارة، وإما أنتم هم العمي لا تبصرون هذه الأسطوانات رجالاً! والله يا إخوتي ما أدري، لا والله أنتم هم العمي!
ثم استشهد هذا المجنون بالشيخ محي الدين من بين الجماعة وقال له: يا شاب ألستُ أقول الحق؟ فقال له الشيخ الأكبر: بلى. وجلس إلى جانبه، فضحك المجنون وقال يا ناس الأستاهة[828]المنتنة تصفر بعضها البعض، وهذا الشاب منتن مثلي هذه المناسبة جعلته يجلس إلى جانبي ويصدقني، أنتم الساعة تحسبونه عاقلاً وأنا مجنون؛ هو أجنّ مني بكثير، وإنما أنتم كما أعماكم الله عن رؤية هذه الأسطوانات رجالاً أعماكم أيضاً عن جنون هذا الشاب. ثم أخذ المجنون بيد الشيخ الأكبر وقال له قم امش بنا عن هؤلاء، فخرج معه فلما فارق الناس ترك يده وانصرف عنه.
وكان الشيخ رضي الله عنه يحاوره ويقول عنه أنه من أكبر من لقيه من المعتوهين؛ كان إذا سأله: ما الذي ذهب بعقلك؟ يقول له: أنت هو المجنون حقاً، ولو كان لي عقل كنت تقول لي ما الذي ذهب بعقلك! أين عقلي حتى يخاطبك، قد أخذه معه ما أدري ما يفعل به وتركني هنا في جملة الدواب آكل وأشرب وهو يدبّرني. فقال له الشيخ: فمن يركبك إذا كنت دابة؟ قال المجنون: أنا دابة وحشية لا أُركب! فيقول الشيخ محي الدين أنه فهم من ذلك أن هذا المجنون خارج عن عالم الإنس، وأنه في مفاوز المعرفة فلا حكم للإنس عليه.
وكان هذا المجنون، كما يقول الشيخ الأكبر، محفوظاً من أذى الصبيان وغيرهم، كثير السكوت، مبهوتا، دائم الاعتبار، يلازم المسجد ويصلي في أوقات، فكان الشيخ يسأله عندما يراه يصلي: أراك تصلي؟ فيقول له: لا والله إنما أراه يقيمني ويقعدني، ما أدري ما يريد بي. فيقول له الشيخ: فهل تنوي في صلاتك هذه أداءَ ما افترض الله عليك؟ فيقول له: أي شيء تكون النية؟ فيقول له: القصد بهذه الأعمال القربة إليه، فيضحك ويقول: أنا أقول له أراه يقيمني ويقعدني فكيف أنوي القربة إلى من هو معي وأنا أشهده ولا يغيب عني، هذا كلام المجانين ما عندكم عقول!
ولكن يبدو أن هذا الحوار الذي ذكرناه لم يكن في دمشق وذلك لأنه من الواضح أن الشيخ رضي الله عنه كان شاباً، فربما حصل ذلك في المغرب أو في الأندلس، فالشيخ رضي الله عنه لم يحدد المكان أو الزمان، وإنما ذكرناها هنا للمناسبة.