6.4.4 - مجانين دمشق
في الباب الرابع والأربعين من الفتوحات المكية[827]تكلم الشيخ رضي الله عنه بإسهاب عن البهاليل وهم الذين يُطلق عليهم اسم عقلاء المجانين الذين لم يكن جنونهم بسبب خلل عضوي بل كان جنونهم بسبب أمرٍ ورد عليهم من الله تعالى فجأة فهاموا فيه وحجب عقولهم عن عالم الشهادة فأصبحوا يدبرون أجسامهم بروحهم الحيواني فيأكلون ويشربون ويتصرفون في ضروراته الحيوانية ويصرفونه مثل تصرف الحيوان المفطور على العلم بمنافعه المحسوسة ومضارّه من غير تدبير ولا روية ولا فكر، وهم ينطقون بالحكمة ولا علم لهم بها، ولا يقصدون نفعك بها لتتّعظ وتتذكّر أن الأمور ليست بيدك وأنك عبدٌ مُصرَّفٌ بتصريف حكيم. وقد سقط التكليف عن هؤلاء المجانين إذ ليس لهم عقول يَقبلون بها ولا يفقهون بها، تراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون، خذ العفو؛ أي القليل مما يُجري الله على ألسنتهم من الحكم والمواعظ.
فهؤلاء هم عقلاء المجانين لأن جنونهم ما كان سببه فساد مزاج عن أمرٍ كوني من غذاء أو جوع أو غير ذلك وإنما كان عن تجلّ إلهي لقلوبهم وفجأة من فجآت الحق فجأتهم فذهبت بعقولهم، فعقولهم محبوسة عنده منعّمة بشهوده عاكفة في حضرته متنزّهة في جماله؛ فهم أصحاب عقول بلا عقول، وعُرفوا في الظاهر بالمجانين أي المستورين عن تدبير عقولهم فلهذا سموا عقلاء المجانين.
ثم روى الشيخ الأكبر رضي الله عنه عن أبي السعود بن الشبل البغدادي عاقل زمانه أنه رضي الله عنه سئل: "ما تقول في عقلاء المجانين من أهل الله؟"، فقال: هم ملاح والعقلاء منهم أملح! قيل له فبماذا نعرف مجانين الحق من غيرهم، فقال: مجانين الحق تظهر عليهم آثار القدرة والعقلاء يشهد الحق بشهودهم. نقل ذلك الخبر للشيخ الأكبر أبو البدر التماسكي صاحب أبي السعود.