شمس المغرب - سيرة لأكبر محي الدين ابن العربي ومذهبه
شمس المغرب - سيرة لأكبر محي الدين ابن العربي ومذهبه

البداية
الجزء الأوّل
الجزء الثاني
الجزء الثالث
اتصل بنا
مرحبًا بكم في شمس المغرب ( يرجى الدخول أو التسجيل)
المقدمات
الفصول
المحتويات

5.3.1 - مراسلته للملك كيكاؤس (بلاد الروم 609/1211)

بعد موسم الحج في مكة المكرمة لا نعرف بالتحديد أين ذهب الشيخ محي الدين ابن العربي ولكن يبدو لنا أنه عاد إلى بلاد الروم ربما قونية أو ملطية التي سيستقر فيها لبعض الوقت كما سنرى. ولكن الشيخ محي الدين يذكر في آخر كتاب الفتوحات المكية أنه استلم كتابا من الملك كيكاؤس يستشيره فيه عن بعض الأمور الخاصة بوضع النصارى في بلاده، ولكن لا نعرف أين كان الشيخ محي الدين عندما استلم هذا الكتاب، إلا أن ذلك كان سنة 609/1211 وردّ عليه الشيخ محي الدين ربما في نفس الوقت على الأغلب.

ولقد فرضنا هنا وعلى الخريطة أنه كان في بلاد الروم عندما استلم كتاب كيكاؤس وعندما ردّ عليه، وسبب هذا الافتراض هو أنه من الواضح من خلال كلام الشيخ محي الدين في آخر ردّه، وخاصة في القصيدة التي أرفقها للملك كيكاؤس مع الكتاب، أنه كان على اطلاع واسع بما يجري في مملكته وحتى في قصره؛ حيث يلوّح له بوجود شخص يسيء استخدام السلطة التي منحها له الملك وينصحه بإقالته.

ولقد استغل أسين بلاثيوس هذا الكتاب لمهاجمة الشيخ محي الدين ابن العربي وكلَّ المسلمين باعتباره أن فيه تحريضاً على الكراهية ضد النصارى.[757]ولكن كلوديا عدّاس ردّت عليه ردّاً شافياً في كتابها "البحث عن الكبريت الأحمر".[758]ونضيف هنا أنه على الرغم من أن كلمات الشيخ محي الدين، والتي هي في الحقيقة بسط للعهد الذي أخذه عمر بن الخطاب رضي الله عنه على أهل الذمة حتى يعيشوا بين المسلمين بسلام، نقول أنه قد تبدو هذه الكلمات قاسية إذا ما أُخذت بمعزل عن الظروف التي كانت في ذلك الوقت، فلا يجوز أن يغيب عنّا أنها كانت في فترة شكّل فيها النصارى خطراً كبيراً على المسلمين وتسبّبوا في قتل الآلاف منهم، ليس فقط خلال الحروب الصليبية التي لم تندمل بعد جراحاتها في ذلك الوقت، ولكن حتى في فترة حكم كيكاؤس وأبيه كيخسرو حيث سيطر الصليبيون على جزء كبير من مملكته ومن سورية وبلاد الشام وكانوا يعيثون في الأرض فساداً وما استطاع ردّهم سوى صلاح الدين بعد حرب سجالٍ دامت سنيناً طوالاً، ومع ذلك فبعد أن استردّ القدس ومعظم بلاد شام منهم وسمح لهم بالخروج إلى بلادهم آمنين كما ذكرنا في الفصل الرابع، ثم مع ذلك عادوا من جديد في آخر حياته وبعد وفاته فعاثوا في الأرض فساداً. وكذلك في هذه الفترة نفسها كان النصارى في الأندلس يقتّلون المسلمين بلا أدنى رحمة ويخرجونهم من هذه الديار بعد أن بنوا فيها حضارة بديعة قائمة على الحب والسلام، ولم يكن هناك أية كراهية أو عداء للنصارى ولا حتى لليهود الذين كانوا يفضلون العيش بين المسلمين.

وكما سنذكر بعد قليل فإن الملك غياث الدين كيخسرو والد عزّ الدين كيكاؤس كان قد استرجع أنطاكية من يد الفرنجة (النصارى) سنة 602/1205 وبقيت بيده حتى سنة 607/1210 حيث هجم الفرنجة عليها وقتلوا من بها من المسلمين من غير رحمة، فربّما كان هذا هو سبب كتابة الملك كيكاؤس لابن العربي يستشيره بأمر النصارى الذين في بلاده.

ومن جهة أخرى نلاحظ في هذا الخطاب كيف أن الشيخ محي الدين يعامل الملك كيكاؤس معاملة الوالد لولده، وينصحه نصيحة إسلامية مخلصة، ويبدو أن العلاقة بينهما كانت علاقة محبة ومودّة ولا شكّ أنهما كانا يلتيقان كثيراً حيث يذكر الشيخ أنه يكتب له كتاباً مختصراً حتى يحين وقت لقائهما.

فيقول الشيخ محي الدين في قسم الوصايا وهو الباب الأخير من الفتوحات المكية أنه كتب وصية ونصيحة إلى السلطان الغالب بأمر الله كيكاؤس صاحب بلاد الروم بلاد يونان رحمه الله جواباً على كتاب كتب به إليه سنة تسع وستمائة، فقال:

بسم الله الرحمن الرحيم وصل الاهتمام السلطاني الغالب بأمر الله العزيز، أدام الله عدل سلطانه، إلى والده الداعي له محمد ابن العربي؛ فتعين عليه الجواب بالوصية الدينية والنصيحة السياسية الإلهية على قدر ما يعطيه الوقت ويحتمله الكتاب، إلى أن يقدّر الاجتماع ويرتفع الحجاب. فقد صح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: "الدين النصيحة"، قالوا: لمن يا رسول الله؟ فقال: "لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم". وأنت يا هذا بلا شك من أئمة المسلمين، وقد قلّدك الله هذا الأمر وأقامك نائباً في بلاده ومتحكماً بما توفّق إليه في عباده، ووضع لك ميزاناً مستقيماً تقيمه فيهم، وأوضح لك محجّةً بيضاءَ تمشي بهم عليها وتدعوهم إليها. على هذا الشرط ولاّك، وعليه بايعناك. فإن عدلت فلك ولهم، وإن جُرت فلهم وعليك. فاحذر أن أراك غداً بين أئمة المسلمين من أخسر الناس أعمالاً الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، ولا يكون شكرك لما أنعم الله به عليك من استواء ملكك بكفران النعم وإظهار المعاصي وتسليط النوّاب السوء بقوة سلطانك على الرعيّة الضعيفة؛ فإن الله أقوى منك، فيتحكمون فيهم بالجهالة والأغراض وأنت المسؤول عن ذلك. فيا هذا قد أحسن الله إليك وخلع خِلع النيابة عليك. فأنت نائب الله في خلقه، وظله الممدود في أرضه، فأنصف المظلوم من الظالم. ولا يغرّنك أن الله وسّع عليك سلطانك وسوّى لك البلاد ومهّدها مع إقامتك على المخالفة والجور وتعدّي الحدود؛ فإن ذلك الاتّساع مع بقائك على مثل هذه الصفات إمهال من الحق لا إهمال، وما بينك وبين أن تقف على أعمالك إلا بلوغ الأجل المسمّى، وتصل إلى الدار التي سافر إليها آباؤك وأجدادك، ولا تكن من النادمين فإن الندم في ذلك الوقت غير نافع.

يا هذا ومِن أشدّ ما يمرّ على الإسلام والمسلمين، وقليل ما هم، رفع النواقيس والتظاهر بالكفر وإعلاء كلمة الشرك ببلادك، ورفع الشروط التي اشترطها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه على أهل الذمة: من أنهم لا يحدثون في مدينتهم ولا ما حولها كنيسة ولا ديراً ولا قليه ولا صومعة راهب ولا يجددون ما خرب منها، ولا يمنعون كنائسهم أن ينزلها أحد من المسلمين ثلاث ليال يطعمونهم، ولا يأوون جاسوساً، ولا يكتمون غشاً للمسلمين، ولا يعلمون أولادهم القرآن، ولا يظهرون شركاً، ولا يمنعون ذوي قربائهم من الإسلام إن أرادوه، وأن يوقّروا المسلمين وأن يقوموا لهم من مجالسهم إذا أرادوا الجلوس، ولا يتشبهون بالمسلمين في شيء من لباسهم في قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر، ولا يتسمّون بأسماء المسلمين ولا يتكنّون بكِناهم، ولا يركبون سرجاً ولا يتقلّدون سيفاً، وأن لا يتخذوا شيئاً من سلاح ولا ينقشوا خواتيمهم بالعربية ولا يبيعوا الخمور، وأن يجروا مقادم رؤوسهم وأن يلزموا زيّهم حيث ما كانوا، وأن يشدوا الزنانير على أوساطهم، ولا يظهروا صليباً ولا شيئا من كتبهم في طريق المسلمين، ولا يجاوروا المسلمين بموتاهم، ولا يضربوا بالناقوس إلا ضرباً خفياً، ولا يرفعوا أصواتهم بالقراءة في كنائسهم في شيء من حضرة المسلمين، ولا يخرجوا سعايين، ولا يرفعوا مع أمواتهم أصواتهم، ولا يظهروا النيران معهم ولا يشتروا من الرقيق ما جرت عليه سهام المسلمين. فإن خالفوا شيئاً مما شورطوا عليه فلا ذمة لهم وقد حل للمسلمين منهم ما يحل من أهل المعاندة والشقاق؛ فهذا كتاب الإمام العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

وقد ثبت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: "لا تبنى كنيسة في الإسلام، ولا يجدد ما خرب منها"،[759]فتدبّر كتابي ترشد إن شاء الله ما لزمت العمل به والسلام.[760]

ثم يقول الشيخ محي الدين أنّه كتب له بعد هذا الكلام قصيدة يحثّه بها على أن يكون أهلاً لِما لُقّب به، وهو الملقب بعزّ الدين، ونلاحظ كيف قسا عليه بالحق من غير خوف ولا خروج عن أدب محادثة الملوك. ويبدو أن الشيخ محي الدين أراد من هذه القصيدة أمراً آخراً لم يشأ أن يضعه نثراً لأنه لا يريد أن يصرّح به، ولكن لا شكّ أن السلطان عرف من هذه القصيدة مَن المقصود وما المقصود! وهذه هي القصيدة التي كتبها بعد النصيحة السابقة مباشرة:

إذا أنت أعززت الهدى وتبعته
وإن أنت لم تحفل به وأهنته
فلا تأخذ الألقاب زوراً فإنكم
يقال لعزّ الدين أعززت دينه
فإن شهد الدين العزيز بعزّكم
وإن قال دين الله كنت بمَلكه
وما زلتُ في سلطانه ذا مهانة
فما حجة السلطان إن كان قوله
وأدمن لباب الله، إن كنت تبتغي
عسى جوده يوما يجود بنفحة
فيا ربِّ رفقاً بالجميع فيا لها
فأنت إمام المتقين ورأسهم
لكم نائب في الأمر أصبح ملحداً
فما لك لم تغلبه واسمك غالبٌ
فيا أيها السلطان حقق نصيحتى
فإني لكم والله أنصح ناصح
وأجلبُ للسلطان من كل جانب
ثم ختم بقوله:

فأنت لهذا الدين عزٌّ كما تُدعى
فأنت مذلُّ الدين تُخفضه وضعا
لتُسألَ عنها يوم يجمعكم جمعا
ويُسألُ دين الله عن عزّكم قطعا
تكن مع دين الله في عزّه شفعا
ذليلاً وأهلي في ميادينه صرعا
وفي زعمه بي أنه محسنٌ صُنعا
كما قلتُ، فليسكب لما قلته الدمعا
تجاوزه عن ذنبك، الضرب والقرعا
فيبرز عفو الله يدفعه دفعا
إذا اجتمع الخصمان من وقعةٍ شنعا
إذا لم تزل تجبر لدين الهدى صدعا
وأضحى لأهل الدين يقطعهم قطعا
وما لك لم تعزله إذ آثر النقعا
لكم وارعني منكم لما قلته سمعا
أذاودُ الردى عنكم وأمنعه منعا
من الدين والدنيا العوارف والنفع

"والله ينفعني بوصيتي ويجازيني على نيتي والسلام عليك ورحمة الله وبركاته".[761]