شمس المغرب - سيرة لأكبر محي الدين ابن العربي ومذهبه
شمس المغرب - سيرة لأكبر محي الدين ابن العربي ومذهبه

البداية
الجزء الأوّل
الجزء الثاني
الجزء الثالث
اتصل بنا
مرحبًا بكم في شمس المغرب ( يرجى الدخول أو التسجيل)
المقدمات
الفصول
المحتويات

4.6.17 - ما جرى بينه وبين الكعبة وزمزم (مكة 600/1203)

ومن ضمن الأمور الغريبة التي جرت بين ابن العربي وبين الكعبة حيث يذكر الشيخ محي الدين أنها كانت تسأله الطواف بها رغبة منها بالاتصال بالمؤمن، وكان يسمع ذلك منها نطقا مسموعا بالأذن، وكذلك كان زمزم يسأله التضلّع[625]من مائه وكان يسمع ذلك، فكان يخاف على نفسه من الحجاب لعظيم شرفهما ومكانتهما عند الله تعالى فخاف أن يحجبه ذلك عمّا هو عليه من القرب الإلهيّ الذي يليق بذلك الموطن، فخاطبهما مبيّنا فضل المؤمن عليهما رغم شرفهما وعلو مكانتهما،[626]لأنهما مهما علا شأنهما فهما لا يزالان من الجمادات.

ولكن الشيخ محي الدين رضي الله عنه يقول إنه نزل مرّة ليلاً في يومٍ باردٍ وفيه مطر خفيف ليطوف حول الكعبة ولم يكن أحد يطوف حولها إلا رجل واحد فنظر إليها فرآها فيما تخيّل له قد شمّرت أذيالها واستعدّت مرتفعة عن قواعدها تريد أن تدفعه عنها إذا وصل بالطواف إلى الركن الشامي وترمي به عن الطواف بها، ويقول إنها كانت تتوعّده بكلامٍ يسمعه بأذنه، فجزع جزعاً شديداً وأظهر اللهُ له منها حرجاً وغيظاً بحيث لم يقدر على أن يبرح من موضعه ذلك وتستّر بالحجر ليقع الضرب عليه فجعله كالمجنّ الحائل بينه وبينها. ويقول الشيخ محي الدين:

وأسمعها والله وهي تقول لي تقدّم حتى ترى ما أصنع بك! كم تضع من قدري وترفع من قدر بني آدم وتفضّل العارفين عليّ! وعزة من له العزة لا تركتك تطوف بي!

فيقول إنه رجع مع نفسه وعلم أن الله يريد تأديبه، فشكر الله على ذلك وزال جزعه الذي كان يجده. ويحلف الشيخ الأكبر بالله أنه كان يُخيّل له أنها قد ارتفعت عن الأرض بقواعدها مشمّرة الأذيال كما يتشمّر الإنسان إذا أراد أن يثب من مكانه يجمع عليه ثيابه، وكانت في صورة جارية لم يرَ صورة أحسن منها ولا يتخيّل أحسن منها. ثم يقول إنه ارتجل أبياتاً في الحال يخاطبها بها ويستنزلها عن ذلك الحرج الذي عاينه منها فما زال يثني عليها في تلك الأبيات وهي تتّسع وتنزل بقواعدها على مكانها وتُظهر السرور بما يُسمعها إلى أن عادت إلى حالها كما كانت وأمّنته وأشارت إليه بالطواف. فيقول الشيخ رضي الله عنه أنه حينئذ رمى بنفسه على المستجار وهو يضطرب من قوّة الحال إلى أن سرّي عنه وصالحها وأودعها شهادة التوحيد عند تقبيل الحجر. فيقول إنه نظر بعينيه فرأى الشهادة قد خرجت عند تلفظه بها في صورة سلك وانفتح في الحجر الأسود مثل الطاق حتى نظر إلى قعر طول الحجر فرآه نحو ذراع ورأى الشهادة قد صارت مثل الكبة واستقرت في قعر الحجر وانطبق الحجر عليها وانسدّ ذلك الطاق وهو ينظر إليه. فقال له الحجر الأسود هذه أمانة عندي أرفعها لك إلى يوم القيامة أشهد لك بها عند الله. فشكر الله ثم شكر الكعبة والحجر على ذلك.

وتجدر الإشارة هنا إلى تشابه هذا الوصف مع وصف الشيخ محي الدين لمقابلته مع الروح الذي أخذ منه ما سطّره في الفتوحات المكية كما ذكرنا أعلاه، حيث قال له هذا الروح من ضمن ما قال: طُف على أثري، وانظر إليّ بنور قمري، حتى تأخذ من نشأتي ما تسطره في كتابك، وتمليه على كتّابك، وعرّفني ما أشهدك الحق في طوافك من اللطائف، مما لا يشهده كل طائف، حتى أعرف همّتك ومعناك، فأذكرك على ما علمت منك هناك؛[627]فقوله أنه سيذكره هناك هو معنى إيداع الشهادة في الحجر الأسود كما يفعل المسلمون في الحج. فهذا يعني أن هذا الروح هو في الحقيقة ذات الحجر الأسود خاصة وأننا وجدنا أن كلّ وتد من الأوتاد له ركن من أركان الكعبة وابن العربي له ركن الحجر الأسود. وكما رأينا أعلاه قبل قليل أن الحجر الأسود يقابل في العالم العنصر الأعظم الذي منه يتكوّن الجوهر الفرد، فيكون قول هذا الروح لابن العربي: طف على أثري، أي طف معي وأنا أشكّل هذه الكعبة أي الجوهر الفرد ومن ثمّ العالم بأثره الذي ما هو إلا صور هذا الجوهر الفرد. فمن يطوف حول الكعبة بهذه المثابة هو كمن يطوف مع العنصر الأعظم في تشكيل الجوهر الفرد ثم معه في تشكيل العالم حيث يكمله في سبعة أيام كما قلنا كما يكمل الطائف سبعة أشواط، فمن يطوف هكذا يكون يجري مع الوقت ولا يجري عليه الوقت. ولذلك فإن الصوفي العادي هو ابن وقته في حين أن الصوفي المتمكّن هو في الحقيقة أبو وقته، وهذا معنى ما نوّهنا عليه في المقدّمة أن ابن العربي هو صاحب الوقت وقطب الزمان. وذكرنا أيضاً في الفصل الثاني كيف أن ابن العربي أخذ العلم عن بعض الأنبياء فأعطاه موسى عليه السلام علم الكشف والإيضاح وعلم تقليب الليل والنهار فلمّا حصل ذلك عنده زال الليل وبقي النهار في اليوم كلِّه فلم تغرب له شمس ولا طلعت،[628]فكلّ هذا معناه أن ابن العربي قد تحلّل من قيود الزمان والمكان. وكما يقول ابن العربي في مواضع كثيرة فإن قطب الزمان له من الأركان ركن الحجر الأسود، وبالتالي فهذا الوصف ينطبق عليه حقيقة.