شمس المغرب - سيرة لأكبر محي الدين ابن العربي ومذهبه
شمس المغرب - سيرة لأكبر محي الدين ابن العربي ومذهبه

البداية
الجزء الأوّل
الجزء الثاني
الجزء الثالث
اتصل بنا
مرحبًا بكم في شمس المغرب ( يرجى الدخول أو التسجيل)
المقدمات
الفصول
المحتويات

4.6.16 - خاتم الولاية المحمدية (مكة، 599/1203)

فإذاً قد تمّت البشرى في مكة المكرّمة بهذا المقام الرفيع بين الأولياء، ولكن ما هو المعنى الدقيق لمقام خاتم الولاية المحمدية؟ يقول الشيخ محي الدين أن الختم ختمان: ختم للولاية عامّة وهو عيسى عليه السلام عندما سينزل في آخر الزمان في محروسة دمشق ويحكم بدين الإسلام، وختم خاص للولاية المحمدية الذي هو الشيخ محي الدين ابن العربي رضي الله عنه. ولكي نفهم معنى خاتم الولاية المحمدية نعود إلى مفهوم الوراثة النبوية الذي تكلمنا عنه في الفصل الثاني، حيث يقول الشيخ محي الدين أن كل وليّ لا بدّ أن يكون وارثاً لنبيّ ما من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وذلك رغم أنه يدين بدين الإسلام، ولكن الشريعة الإسلامية جاءت مكمّلة للشرائع التي كانت قبلها، فمنها ما هو موجود في شريعة من هذه الشرائع السابقة، ومنها ما هو مختص بها. فمَن كان من الأولياء مختصّاً بعلمٍ ما من الشريعة الإسلامية ممّا كان موجودا من قبل في شريعة سابقة، فهو وارثٌ لنبيّ تلك الشريعة؛ فيقال فيه وارثٌ عيسويّ ووارثٌ موسويّ وهكذا. وأما الوارث المحمدي فهو الذي ورث علوم الشريعة الإسلامية كاملة بما فيها الشرائع الأخرى المتضمنة فيها.

وقد رأينا من قبل في الفصل الثاني أن الشيخ أبا العباس العريبي كان عيسويّ المقام، وكان الشيخ محي الدين في بدايته عيسويّ المقام أيضاً مثل شيخه، ثم ارتقى إلى الوراثة المحمدية الكاملة، وربما حصل ذلك مع هذه الرؤيا في مكّة المكرّمة. وبالإضافة إلى ذلك فإنّه كان خاتم هذا الصنف من الأولياء المحمّديين، وهذا مقام رفيع لا يناله إلا الأفراد من الرجال، وقد بُشّر به الشيخ محي الدين مرات عديدة حتى ناله فعليا في مكة المكرمة في هذه السنة، سنة 599، على ما يبدو.

في الحقيقة لقد بُشّر الشيخ محي الدين أنه سينال مقام الختم منذ بداية دخوله الطريق سنة 580، وذلك جليّ في قوله:

... فدخلنا في كل ما ذكرناه في هذه الإمدادات الإلهية ذوقاً مع عامّة أهل الله وزدنا عليهم باسم إلهي وهو "الآخر" أخذنا منه الرياسة وروح الله الذي يناله المقربون من قوله تعالى (من سورة الواقعة)[b]((فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ [88] فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ [89]))[/b]، ونلت هذه المقامات في دخولي هذه الطريقة سنة ثمانين وخمسمائة في مدة يسيرة في حضرة النكاح مع أهل الصفاء وفي حضرة الشكوك مع أهل القهر والغلبة من أجل الاختلال في الشروط وهي المواثيق التي أُخذت على العالم بالله، فمِنّا من غدر ومِنّا من وفّى، فكنّا ممّن وفّى بحمد الله.[621]

فكونه زاد على عامّة أهل الله تعالى وأخذ الرياسة عليهم من الاسم الإلهي "الآخر" فيه تصريح على أنه سينال مرتبة الختم، ولا بدّ أنه رضي الله تعالى عنه قد عرف هذه المرتبة منذ ذلك الوقت، ولكنه آثر عدم إظهارها وإعلانها حتى ينالها بالفعل خوفا من المكر الإلهي. وفي الحقيقة نراه حتى بعد أن نال هذه المرتبة العظيمة يطلب من الله تعالى أن يخفيها عليه ولا يظهره بها أمام الناس، وهذا ما حصل على أكثر المستويات ولكن كان لا بدّ من إظهارها وإشهارها لأنها أمرٌ كونيّ. فيطلب ابن العربي من الله تعالى في الديوان الكبير في القصيدة الطويلة التي ذكرنا طرفا منها في الفصل الثالث أن يجعله مثل "ابن جعدون الحناوي" الذي ذكرناه في الفصل الثالث أيضاً، وكان من الأوتاد، وكان ينخل الحنّا، وكان رضي الله عنه سأل الله تعالى أن يُسقط حرمته من قلوب العالم فكان إذا غاب لم يفتقد وإذا حضر لم يُستشر وإذا جاء لا يوسَع له وإذا تكلم بين قوم ضُرب وسخّف.[622]وابن جعدون، كما ذكرنا، جاء إلى الشيخ محي الدين أول قدومه إلى فاس وطلب منه أن يشرح له بعض الفقرات من كتاب "شرح المعرفة" للمحاسبي، ولم يكن يبدو عليه أنه من رجال الله، ولكن الشيخ محي الدين خوطب بسرّه بأحواله ومن هو ومقامه وأنه من الأوتاد الأربعة وأن ابنه يرث مقامه، فقال له: عرفتك فأنت فلان، فأغلق كتابه وقام واقفاً وقال للشيخ ابن العربي: الستر الستر إني أحبك فأحببت أن أتعرف إليك، فقد تم المقصود.[623]

فيقول الشيخ محي الدين في هذه القصيدة طالباً من الله الستر:

سألتك ربي أن تجود لعبدكم
كمثل ابن جعدون وقد كان سيّداً
سألتك ربي عصمة الستر إنّه
لقد عاينَت عيني رجالا تبرّزو

بأن يكُ مستوراً إلى آخر الدهر
إماماً فلم يبرح من الله في ستر
على سنّة الحنّاوي سنّتنا تجري
خضارمة عليا وما عندهم سرّي[624]

فإذاً، ما حصل للشيخ محي الدين هو أنه كان يبشّر منذ بداياته بمقام الختم، ولكنه ما كان يريد إظهار ذلك وهو نفسه أيضاً لم يكن منه على حقيقة اليقين، بل مثل من يرى رؤيا يصدّقها ولكنّه ينتظر تأويلها، حتى تم له المقام بالفعل في مكة المكرّمة. ومن أجل ذلك نجد الشيخ محي الدين يعطي صوراً مختلفة من قبل، كما ناقشناها في الفصل الثالث.