شمس المغرب - سيرة لأكبر محي الدين ابن العربي ومذهبه
شمس المغرب - سيرة لأكبر محي الدين ابن العربي ومذهبه

البداية
الجزء الأوّل
الجزء الثاني
الجزء الثالث
اتصل بنا
مرحبًا بكم في شمس المغرب ( يرجى الدخول أو التسجيل)
المقدمات
الفصول
المحتويات

4.4.4 - فضل مكة المكرمة والحرم

قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم فتح مكة: "هَذَا البَلَدُ حَرّمَهُ اللهُ يَوْمَ خَلَقَ السّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللهِ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ لاَ يُعْضَدُ شَوْكُهُ وَلاَ يُنَفّرُ صَيْدُهُ وَلاَ يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إلاّ مَنْ عَرّفَهَا وَلاَ يُخْتَلَى خَلاَهُ".[559]وقال أيضاً في فضل مكة المكرمة: "وَاللهِ إِنِّيْ لأَعْلَمُ أَنَّكِ خَيْرَ أَرْضِ اللهِ، وَأَحَبَّ أَرْضِ اللهِ إِلَيَّ، وَلَوْلاَ أَنِّيْ أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ".[560]

وقال عليه الصلاة والسلام عن فضل الصلاة في المسجد الحرام: "صَلاةٌ فِي المَسْجِدِ الحَرَامِ مِئَةُ أَلْفِ صَلاَةٍ، وَصَلاَةٌ فِي مَسْجِدِي أَلْفُ صَلاَةٍ، وَفِي بَيْتِ المَقْدِسِ خَمْسَ مِئَةَ صَلاَةٍ."[561]

المسلمون يطوفون حول الكعبة المشرفة في مكة المكرمة في موسم الحج

من أجل ذلك ذهب كثير من العلماء، كالشافعي وأحمد، إلى استحباب المجاورة في مكة المكرمة، لِما يحصل فيها من ثواب لا يحصل في غيرها، فسكّان مكّة في ثوابٍ دائمٍ للنظر إلى البيت والقرب منه. ولذلك سنجد أن الشيخ محي الدين رضي الله عنه قد ترك بلاده في الأندلس وأهله هناك، وترك أيضاً العزّ والجاه الذي كان يلقاه عند الملوك والأمراء هناك، ولم يأبه لهذا كلِّه وآثر جِوار الله تعالى ورسولِه عليه الصلاة والسلام، حيث سيبقى في هذه المرّة سنتين متواصلتين ثم يعود إليها عدة مرات بعد ذلك بقصد الحجّ ويجاور فيها لفترات متقطعة.

وقد وَجدت بعض الدراسات الحديثة أن مكّة المكرّمة تُعتبر مركز اليابسة على سطح الكرة الأرضية لتساوي جميع أطراف القارات بالبعد عنها، وكذلك فإن مكة تقع أيضاً في المركز المغناطيس للكرة الأرضية.[562]

ومن كثرة ما وَجد فيها من البركة أراد الشيخ محي الدين ابن العربي أن يستحثّ صاحبه العزيز عبد العزيز المهدوي على زيارتها فكتب له في مقدمة الفتوحات المكية[563]التي أهداها إليه كما سنرى لاحقا وقال:

و(نريد) أن نعرّف أيضاً في هذا الموضوع الصفيَّ الكريمَ أبا محمد عبد العزيز رضي الله عنه ما تعطيه مكة من البركات وأنها خير وسيلة عبادية وأشرف منزلة جمادية ترابية عسى تنهض به همة الشوق إليه وتنزل به رغبة المزيد عليه، فقد قيل لمن أوتي جوامع الكلم وكان من ربه في مشاهدة العين أدنى من قاب قوسين، ومع هذا التقريب الأكمل والحظّ الأوفر الأجزل أنزل عليه ﴿وقل ربّ زدني علماً﴾. ومن شرط العالِمِ المُشاهدِ صاحبِ المقامات الغيبية والمَشاهد أن يعلم أن للأمكنة في القلوب اللطيفة تأثيراً ولو وجد القلب في أي موضع كان الوجود الأعم فوجوده بمكة أسنى وأتم، فكما تتفاضل المنازل الروحانية كذلك تتفاضل المنازل الجسمانية، وإلا فهل الدرّ مثل الحجر إلا عند صاحب الحال، وأما المُكمّل صاحب المقام فإنه يميّز بينهما كما ميّز بينهما الحق؛ هل ساوى الحق بين دارٍ بناؤها لِبن التراب والتبن ودارٍ بناؤها لِبن العسجد واللجين! فالحكيم الواصل من أعطى كلَّ ذي حقٍّ حقَّه فذلك واحد عصره وصاحب وقته. وكثيرٌ (الفرق) بين مدينة يكون أكثر عمارتها الشهوات وبين مدينة يكون أكثر عمارتها الآيات البيّنات؛ أليس قد جمع معي صفيّي أبقاه الله أن وجود قلوبنا في بعض المواطن أكثر من بعض. وقد كان رضي الله عنه يترك الخلوة في بيوت المنارة المحروسة الكائنة بشرقيّ تونس بساحل البحر وينزل إلى الرابطة التي في وسط المقابر بقرب المنارة من جهة بابها، وهي تُعزى إلى الخضر، فسألته عن ذلك فقال إن قلبي أجده هنالك أكثر منه في المنارة وقد وجدت فيها أنا أيضاً ما قاله الشيخ. وقد علم وليّي أبقاه الله أن ذلك من أجل من يعمر ذلك الموضع إمّا في الحال من الملائكة المكرّمين أو من الجنّ الصادقين وإمّا من همّة من كان يعمره وفُقد، كبيت أبي يزيد الذي يُسمي بيت الأبرار وكزاوية الجنيد بالشونيزية وكمغارة ابن أدهم بالتعن، وما كان من أماكن الصالحين الذين فنوا عن هذه الدار وبقيت آثارهم في أماكنهم تنفعل لها القلوب اللطيفة.

ولهذا يرجع تفاضل المساجد في وجود القلب لا في تضاعف الأجر فقد تجد قلبك في مسجد أكثر مما تجده في غيره من المساجد وذلك ليس للتراب ولكن لمجالسة الأتراب أو هممهم، ومن لا يجد الفرق في وجود قلبه بين السوق والمساجد فهو صاحب حال لا صاحب مقام. ولا أشك كشفاً وعلماً أنه وإن عمرت الملائكة جميع الأرض مع تفاضلهم في المعارف والرتب فإن أعلاهم رتبة وأعظمهم علماً ومعرفةً عَمَرةُ المسجد الحرام. وعلى قدر جُلسائك يكون وجودك فإنه لِهِمَمِ الجلساء في قلب الجليس لهم تأثيراً وهِمَمُهم على قدر مراتبهم.

وإن كان من جهة الهِمم فقد طاف بهذا البيت مائة ألف نبي وأربعة وعشرون ألف نبي سوى الأولياء، وما من نبي ولا وليّ إلا وله همة متعلقة بهذا البيت وهذا البلد الحرام لأنه البيت الذي اصطفاه الله على سائر البيوت وله سرّ الأولية في المعابد كما قال تعالى (في سورة آل عمران) [b]((إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ [96] فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ... [97]))[/b]من كلّ مخوف إلى غير ذلك من الآيات.

فلو رحل الصفي أبقاه الله إلى هذا البلد الحرام الشريف لوجد من المعارف والزيادات ما لم يكن رآه قبل ذلك ولا خطر له بالبال. وقد علم رضي الله عنه أن النفس تُحشر على صورة عِلمها والجسم على صورة عمَله، وصورة العلم والعمل بمكة أتمّ ممّا في سواها، ولو دخلها صاحب قلب ساعةً واحدةً لكان له ذلك فكيف إن جاور بها وأقام وأتى فيها بجميع الفرائض والقواعد، فلا شكّ أنّ مشهده بها يكون أتمّ وأجلى ومورده أصفى وأعذب وأحلى وإذ وصفيّي أبقاه الله قد أخبرني أنه يُحس بالزيادة والنقص على حسب الأماكن والأمزجة ويعلم أن ذلك راجع أيضاً إلى حقيقة الساكن به أو همّته كما ذكرنا، ولا شك عندنا أن معرفة هذا الفنّ، أعني معرفة الأماكن والإحساس بالزيادة والنقص، من تمام تمكّن معرفة العارف وعلوّ مقامه وشرفه على الأشياء وقوّة ميزه. فالله يكتب لوليّي فيها أثراً حسناً ويهبه فيها خيراً طيباً إنه الولي بذلك والقادر عليه.[564]