شمس المغرب - سيرة لأكبر محي الدين ابن العربي ومذهبه
شمس المغرب - سيرة لأكبر محي الدين ابن العربي ومذهبه

البداية
الجزء الأوّل
الجزء الثاني
الجزء الثالث
اتصل بنا
مرحبًا بكم في شمس المغرب ( يرجى الدخول أو التسجيل)
المقدمات
الفصول
المحتويات

4.3.6 - القدس (شهر شوال/ذو القعدة 598/1202)

وكذلك قبل أن يذهب الشيخ محي الدين إلى مكة أيضاً كان لا بدّ أن يزور بيت المقدس في مدينة القدس ويصلي في المسجد الأقصى.

وتعتبر القدس واحدة من أكبر مدن فلسطين وكانت تسمى أورشليم أي بلد السلام وهي مدينة مقدسة لكل من المسيحيين والمسلمين واليهود حيث فيها كنيسة القيامة التي يعتقد أن المسيح بن مريم عليه السلام قد قام فيها، وهي للمسلمين أولى القبلتين تتبعها مكة المكرمة وثالث الحرمين الشريفين في مكة والمدينة المنورة، ويعتقد اليهود أن فيها هيكل سليمان عليه السلام. تُعتبر القدس من أقدم المدن في التاريخ، فترجع نشأتها إلى سنة 5000 ق.م، حين عمرها الكنعانيون، وفي سنة 3000 ق.م. سكنها العرب اليبوسيون الذين بنوا المدينة وأطلقوا عليها اسم مدينة السلام، نسبة إلى سالم أو شالم "إله السلام" عندهم.

ازدهرت المدينة في عهد اليبوسيين خلال فترة بعثة إبراهيم عليه الصلاة والسلام ثم فتحها داود عليه السلام في حوالي سنة 1000 ق.م وجعل منها عاصمة لمملكته، ثم بنى فيها سليمان عليه السلام الهيكل. دمّرها الرومان بقيادة تيتوس عام 70 م ثم أعيد بناؤها في عهد هادريانس عام 135 م، ثم أحرقها الفرس عام 614 م وفتحها المسلمون عام 638 م في عصر الخليفة عمر بن الخطاب حيث استلم مفاتيحها من البطريارك صفرونيوس فأصبح اسمها القدس وعاش فيها المسلمون مع اليهود والنصارى بسلام ووفاق وفق وثيقة الأمان التي كتبها عمر رضي الله عنه. احتلها الصليبيون عام 492/1099 ثم استرجعها المسلمون بقيادة صلاح الدين الأيوبي بعد معركة حطين عام 583/1187. وفي العصر الحديث تم احتلال القسم الغربي من القدس عند إقامة دولة إسرائيل في العام 1367/1948، كما تم احتلال القسم الشرقي الحاوي على البلدة القديمة في عام 1386/1967.

ولما فُتحت القدس اختار صلاح الدين خطيباً شابّاً من بين جميع الشيوخ ليخطب الجمعة الأولى بعد الفتح، وهذا الشاب هو القاضي الشهير محي الدين ابن الزكي الذي كان قاضياً في حلب ثم عيّنه صلاح الدين قاضياً في دمشق، فقال ابن الزكي من جملة ما قال: "... إياكم أن يستذلكم الشيطان... فيخيل إليكم أن هذا النصر بسيوفكم الحداد وبخيولكم الجياد وبجلدكم في موقع الجلاد... والله وما النصر إلا من عند الله... إن الله عزيز حكيم". وكان هذا القاضي محي الدين ابن الزكي هو الذي صلى بالناس على جنازة صلاح الدين بعد ذلك ببضع سنوات. وتجدر الإشارة هنا إلى أن بني الزكي من العائلات الشهيرة في دمشق وقد تولّوا وتوارثوا منصب قاضي القضاة على مدى عدّة عقود وسوف نرى في الفصل السادس أنهم هم الذين قد أكرموا الشيخ محي الدين ابن العربي عند استقراره في دمشق ووفّروا له ولمريديه الرعاية ومات الشيخ الأكبر في بيت ابن الزكي ودفن في المقبرة المخصصة لبني الزكي في الصالحية كما سنرى في الفصل السادس.

أصبحت القدس في عهد الإسلام مركزاً مهمّاً من مراكز الحضارة العربية الإسلامية وقد أقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيها مسجداً وأزال التراب المتراكم على الصخرة المشرفة وأقام عليها مصلّى، وفي العهد الأموي بنى عبد الملك بن مروان مسجد الصخرة، ورصد لبنائه خراج مصر لسبع سنين ثم توالى الخلفاء والأمراء فجددوا وزخرفوا فيه حتى أصبح من أجمل الأبنية.

على الرغم من أن أهالي القدس عانوا معاناة شديدة إبّان الغزو الفرنجي لها وسالت في المسجد والمدينة دماء عشرات الألوف من أبناءها، ولكن حين حررها الناصر صلاح الدين الأيوبي أعطى الفرنجة نموذجا رائعاً في الرحمة والتسامح حيث لم يعاملهم بعملهم واكتفى بدفع فدية قليلة ودفع هو من ملكه الخاص عن الفقراء الذين لا يملكون دفع الفدية.

أمر صلاح الدين بإعادة أبنية القدس إلى حالها القديم، وطهّر المسجد والصخرة من الأقذار بعدما دنّسها الصليبيّون، وصلى فيهما ونصب منبراً في المسجد كان قد أمر بصنعه نور الدين محمود زنكي. وعمل صلاح الدين على توسيع المسجد الأقصى وتدقيق نقوشه، وزوده بالمصاحف والكتب، فعاد إلى المسجد رونقه وبهاؤه وجلاله، فازدهرت القدس من جديد في ظل الحكم الإسلامي، وبرز فيها عدد من العلماء الأجلاء. وقد سلِمت القدس وفلسطين ومصر من غارات المغول الذين اجتاحوا العراق وسورية سنة 640/1243 بفضل انتصار الظاهر بيبرس على المغول في معركة عين جالوت سنة 658/1260.