شمس المغرب - سيرة لأكبر محي الدين ابن العربي ومذهبه
شمس المغرب - سيرة لأكبر محي الدين ابن العربي ومذهبه

البداية
الجزء الأوّل
الجزء الثاني
الجزء الثالث
اتصل بنا
مرحبًا بكم في شمس المغرب ( يرجى الدخول أو التسجيل)
المقدمات
الفصول
المحتويات

2.3.6 - بداية زهده وتخلّيه عن أمواله

كما هو الأمر على كل من يريد دخول طريق التصوف والزهد، كان لا بدّ لابن العربي من أن يتخلى عن ماله وملكه حتى يتفرّغ لعبادة ربّه ويحرّر نفسه من قيود التعلّقات الدنيوية. ويُرجع ابن العربي أصل هذا التصرّف إلى الحديث الشهير عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوما أن نتصدق ووافق ذلك مالا عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوما، فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما أبقيت لأهلك؟ قلت، أبقيت لهم، قال: ما أبقيت لهم؟ قلت: مثله، وأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال: يا أبا بكر! ما أبقيت لأهلك؟ فقال: أبقيت لهم الله ورسوله. قلت: لا أسبقه إلى شيء أبدا.[154]

ولكن بما أن محي الدين لم يكن بعدُ قد التزم مع شيخ يثق به، شاور بذلك والده وأعطاه كلَّ ما يملك من طوع نفسه:

وهكذا كان خروجنا عمّا بأيدينا ولم يكن لنا شيخ نحكّمه في ذلك ولا نرميه بين يديه فحكّمنا فيه الوالد رحمه الله لمّا شاورنا في ذلك، فإنّا تركنا ما بأيدينا ولم نسند أمره إلى أحد لأنّا لم نرجع على يد شيخ، ولا كنت رأيت شيخاً في الطريق بل خرجت عنه خروج الميت عن أهله ومالِه. فلمّا شارونا الوالد وطلب منّا الأمر في ذلك حكّمناه في ذلك ولم أسأل بعد ذلك ما صنع فيه إلى يومي هذا. هذا ما يعطي حكم ذوق النفس ولا بدّ منه لكل طالب.[155]

ثم يقول إن أصل ذلك هو إتيان أبي بكر بجميع ما يملكه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم حين قال له ائتني بما عندك، وأتاه عمر بشطر ماله فإنه صلّى الله عليه وسلّم ما حدّ لهم في ذلك ولو حدّ لهم في ذلك ما تعدى أحد منهم ما حدّه له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وإنما أراد صلّى الله عليه وسلّم أن تتميز مراتب القوم عندهم فقال لأبي بكر: "ما تركت لأهلك؟" فقال: "الله ورسوله" وهذا غاية الأدب، حيث قال "ورسوله"، فإنه لو قال: "الله" لم يتمكن له أن يرجع في شيء من ذلك إلاّ حتى يرده الله عليه من غير واسطة حالاً وذوقاً، فلما علم ذلك قال: "رسوله"، فلو ردّ إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من ماله شيئاً قبِله لأهله من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإنه تركه لأهله فما حكّم فيه إلاّ من استنابه ربّ المال. فانظر ما أحكم هذا وما أشد معرفة أبي بكر بمراتب الأمور. وتخيّل عمرٌ أنه يسبق أبا بكر في ذلك اليوم لأنه رأى إتيانه بشطر ماله عظيما. ثم قال رسول الله صلى الله عليهم وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: "ما تركت لأهلك؟" قال: "شطر مالي"، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "بينكما ما بين كلمتيكما". قال عمر: "فعلمت أني لا أسبق أبا بكر أبداً". والإنسان ينبغي أن يكون عالي الهمة يرغب في أعلى المراتب عند الله ويوفى كل مرتبة حقها؛ فلم يرد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أبي بكر شيئا من ماله تنبيهاً للحاضرين على ما علمه من صدق أبي بكر في ذلك، فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد عَلم منه الرفق والرحمة فلو ردّ شيئا من ذلك عليه تطرق الاحتمال في حق أبي بكر أنه خطر له رفق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فعوّض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أهل أبي بكر بما يقتضيه نظره صلّى الله عليه وسلّم. وجاءه عبد الرحمن بن عوف بجميع ماله فرده عليه كلّه وقال: "أمسك عليك مالك".[156]