شمس المغرب - سيرة لأكبر محي الدين ابن العربي ومذهبه
شمس المغرب - سيرة لأكبر محي الدين ابن العربي ومذهبه

البداية
الجزء الأوّل
الجزء الثاني
الجزء الثالث
اتصل بنا
مرحبًا بكم في شمس المغرب ( يرجى الدخول أو التسجيل)
المقدمات
الفصول
المحتويات

2.3.5 - شيخه الأول عيسى عليه السلام

إذاً، على الرغم من أن فتحه كان جذبةً سبقت رياضته، فإن بداية الشيخ محي الدين ابن العربي في طريق التصوف لم تكن تحوّلا أو منعطفا غير متوقّع في حياته كما قد يُتوهّم من بعض الروايات، لأن طبيعته وميوله كانت منذ صغره موافقة لأهل الله تعالى من الفقراء والزهّاد إلى أن انتظم كليّاً في طريق الزهد منذ بداية شبابه وربّما قبل بلوغه سنّ الرشد، حيث بدأ التربية على أيدي شيوخ عصره كما ذكرنا أعلاه.

ولكن الشيخ الأكبر كثيراً ما يشير في الفتوحات المكية كيف أن توبته حصلت في الحقيقة على يد عيسى ابن مريم عليه السلام، في رؤيا مبشّرة رآه فيها مع غيره من الرسل صلى الله وسلم عليهم أجمعين، كما سنتطرّق إلى ذلك بمزيد من التفصيل بعد قليل. وهذا معنى قوله في الفتوحات: "ومن الواقعة كان رجوعنا إلى الله، وهي أتمّ العلل وهي المبشرات...."،[147]وقال أيضاً في مزيد من التفصيل في الباب التاسع والعشرين وخمسمائة في معرض حديثه عن معرفة حال قطب، يبدو أنه هو نفسه الشيخ الأكبر، كان منزله الآية من سورة الأعراف [b]((وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ... [58]))[/b]:

اعلم أيّدنا الله وإياك بروح القدس أن هذا الذِكر كان لنا من الله عزّ وجلّ؛ لمّا دعانا الله تعالى إليه فأجبناه إلى ما دعانا إليه مدّة ثم حصلت عندنا فترة، وهي الفترة المعلومة في الطريق[148] عند أهل الله التي لا بدّ منها لكل داخل في الطريق ثم إذا حصلت الفترة إما أن يعقبها رجوع إلى الحال الأوّل من العبادة والاجتهاد، وهم أهل العناية الإلهية الذين اعتنى الله عزّ وجلّ بهم، وإما أن تصحبه الفترة فلا يفلح أبداً. فلمّا أدركتنا الفترة وتحكّمت فينا رأينا الحق في واقعة[149]فتلى علينا هذه الآيات (من سورة الأعراف): [b]((وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء ...))[/b]... الآية [57]، ثم قال: [b]((وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ... [58]))[/b]. فعلمت أني المراد بهذه الآية وقلت: ينبّه بما تلاه علينا على التوفيق الأوّل الذي هدانا الله به على يد عيسى وموسى ومحمد سلام الله على جميعهم، فإن رجوعنا إلى هذا الطريق كان بمبشرة على يد عيسى وموسى ومحمد عليهم السلام؛[150] [b]((بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ))[/b]، وهي العناية بنا، [b]((حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً))[/b]، وهو ترادف التوفيق،[b]((سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ))[/b]، وهو أنا، [b]((فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ))[/b]، وهو ما ظهر علينا من أنوار القبول والعمل الصالح والتعشّق به، ثم مثّل فقال: [b]((كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ))[/b]، يشير بذلك إلى خبر ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في البعث أعني حشر الأجسام من أن الله يجعل السماء تمطر مثل مني الرجال ... الحديث.[151] ثم قال: [b]((وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ))[/b]، وليس سوى الموافقة والسمع والطاعة لطهارة المحل،[b]((وَالَّذِي خَبُثَ))[/b]، وهو الذي غلبت عليه نفسه والطبع -وهو معتنى به في نفس الأمر- [b]((لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا))[/b]، مثل قوله [صلّى الله عليه وسلّم] أن لله عباداً يقادون إلى الجنة بالسلاسل،[152] وقوله [تعالى]: [b]((وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا))[/b][الرعد: 15]، فقلنا: طوعاً يا إلهنا.[153]

ومع أنه يذكر أنه رأى في هذه الواقعة عيسى وموسى ومحمداً صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، إلا أنه يخصّ عيسى عليه السلام لأنه هو الذي تولاّه منذ بدايته فكان "عيسوي المقام" مثل شيخه أبي العبّاس العريبي الذي بدأ معه الطريق كما سنرى لاحقا، مع أنه انتقل بعد ذلك إلى المقام المحمدي.