0.2.2 - محتويات هذا الكتاب
بالإضافة إلى هذا التصدير والمقدمة، فلقد رأيت أن أقسم هذا الكتاب، بأجزائه الثلاثة، إلى سبعة فصول يختص كلٌّ منها بحقبة من حياة الشيخ الأكبر، وسميّتها بأسماء بعض أوقات مواضع الشمس في السماء، وذلك بسبب التشابه الذي ذكرناه في بداية هذا التصدير.
فالفصل الأول هو وقت الفجر ونتكلم فيه عن المرحلة التي سبقت ولادته وعن أصل قبيلته وأجداده وانتقالهم من اليمن إلى الأندلس مع الفتوحات الإسلامية، ثم نتطرق باختصار لتاريخ الأندلس مع بعض التركيز على الفترة التي سبقت ولادة الشيخ الأكبر حيث ننهي الفصل بخلاصة عن الوضع السياسي والاجتماعي في ذلك الوقت.
أما الفصل الثاني فهو الصبح ونتكلم فيه عن بزوغ شمس محي الدين سنة 560/1165 وحياته في طفولته وشبابه وتعليمه وتربيته على أيدي شيوخ الأندلس في ذلك العصر، ثم تنقّله في بعض نواحي الأندلس وبداية شهرته حتى سنة 589/1192.
والفصل الثالث أعطيناه اسم الضُحَى ونغطّي فيه المرحلة ما بين 589/1192 و597/1200 التي تنقّل فيها الشيخ رضي الله عنه عدة مرات ما بين مدن الأندلس والمغرب وتونس.
أما الفصل الرابع فهو وقت الظهر حيث تبلغ الشمس أقصى مداها في السماء، وهو وقت الزوال الذي يكون حينما يختفي ظل الجسم فيه عندما تكون الشمس قائمة عليه وقت الظهيرة، وهو رمز إلى الفناء في الله عمّا سواه، إن كان ثمّ. وفي هذه المرحلة، التي استمرت حتى سنة 600/1203، ارتحل الشيخ نحو المشرق إلى مكة المكرمة ليحج إلى بيت الله الحرام، بعد أن مرّ بمصر والقدس والمدينة المنوّرة.
وفي الفصل الخامس، وهو مرحلة العصر، كما في مرحلة الضحى، بدأ الشيخ رحلات متعددة بين مدن المشرق مكة والقدس وبغداد وحلب وقونية وسيواس والقاهرة، وكان يتردد كثيرا إلى مكة للحج والتدريس في الحرم إلى أن استقرّ في دمشق سنة 620/1223 وبقي بها حتى وفاته رحمه الله تعالى سنة 638/1204 وهي الفترة التي خصّصنا لها الفصل السادس الذي هو وقت الغروب.
أما في الفصل السابع والأخير فقد تكلمنا عن فترة ما بعد ابن العربي حيث بدأت كتبه تنتشر وذكره يعمّ الآفاق أكثر فأكثر وبدأ الناس يهتمون به وبعلومه وكذلك بدأ بعض الناس ينتقدونه ويكفّرونه ويؤلفون الكتب في سبّه وبيان فساد عقيدته ومذهبه كما عكف الكثير من مريديه على شرح كتبه ونشر علومه وتعاليمه ولا يزال هذا الصراع مستمرا إلى هذا الوقت. ومن أجل ذلك فقد سمّينا هذا الفصل بوقت العشاء، حين ينام أكثر البشر، وتلتبس الأمور على بعض ضعيفيّ النظر، ولا يفوز بالوصال إلا من سهِر أو، إذا نام، استيقظ قبل السحَر.
وعندما أعدنا كتابة هذا الكتاب في هذه الطبعة الثالثة، توسع بنا البحث في هذا الفصل الأخير فوضعناه في جزء منفصل وقسمناه إلى ثلاثة فصول: العشاء والغسق (الأول والثاني)، ثم خصصنا الجزء الثالث لتحقيق رسالتي الفهرست والإجازة وإحصاء الكتب التي تصح نسبتها للشيخ محي الدين، وهو الأمر الذي كان ملحقاً مختصرا في الطبعة الأولى.
ولقد كان من باب المصادفة العجيبة أن يكون تقسيم هذا الكتاب إلى سبعة فصول بهذا الشكل، فمع أنني لم أقصده منذ البداية ولكن استقرّ الأمر على هذا الترتيب الذي جاء طبيعيّاً ليستوعب المراحل المختلفة من حياة الشيخ الأكبر. ولكنني عندما أعدت النظر في هذا الترتيب وجدت معناه واضحا وصريحا وأنّه لم يكن مصادفة؛ فهو تعبير وانعكاس لأساس رؤية الشيخ الأكبر للعالم الذي خلقه الله تعالى على صورته الإلهيّة.
فلمّا كان الله عزّ وجلّ موصوفا بالسبعة الصفات الأساسية: السمع، الحياة، العلم، القدرة، الإرادة، البصر، والكلام، التي هي أمّهات الصفات الإلهية الحسنى التي تلزم وتكفي ليكون الله إلها خالقا لهذا العالم، فلذلك خلق الله العالم على هذه الصورة في ستة أيام ثم استوى على العرش، وهو يوم السبت، كما مرَّ في آيات كثيرة من القرآن الكريم [7:45, 10:3, 11:7, 25:59, 32:4, 50:38 و 57:4]. {footnote:تمت مناقشة هذا الموضوع بإسهاب في الفصل الرابع من نموذج الجوهر الفرد للكون [citep:yousef2013single] وأيضا في الفصل الرابع من كتاب ازدواجية الزمن [citep:yousef2017duality].}
ويوازي ذلك أيضاً خلقُ الجنين في بطن أمه في ستة أشهر وهي مدّة الحمل الحقيقي، وما فوقها فهو من الفصال لقوله تعالى في سورة لقمان: ﴿وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ [14]﴾ ثم قال في سورة الأحقاف: ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا [15]﴾، فالحمل ستة أشهر أي ستة أيام قمرية، فيوم القمر هو شهره، والفِصال أربعة وعشرون شهراً، منها في الرحم شهر واحد أو ثلاثة أشهر، والباقي على الثدي، ثم بعدها يخرج الجنين إلى الحياة مستقلاً بنفسه.
كذلك العالم كله سبعة أيام، ستة للتكوين واليوم السابع للعرض، وهو يوم القيامة، يوم الأبد، والله أعلم وهو علاّم الغيوب.
وهكذا فإن حياة الشيخ الأكبر رضي الله عنه، أو حياة علومه إن شئت، هي سبعة أيام ستة للتكوين والسابع للعرض ونحن فيه الآن. وليس هذا التشبيه مجازا أبدا، بل حقيقة تنطبق فصولها على أدقّ التفاصيل؛ قد فصّلها الشيخ محي الدين في كتبه الكثيرة وأنا هنا أختصرها اختصارا شديدا:
فاليوم الأول يكون عن صفة السمع وهو الوجود النسبي قبل الخلق، حيث يقول الله تعالى للشيء “كن” فيكون، فالعالم قبل خلقه له صفة السمع مع أنه غير موجود بعد، وبها يسمع أمر الله تعالى فيطيع، ثم يبدأ يكتسب الصفات الأخرى تباعا، فينفخ الله فيه الروح فيصير حيّا ثم يكتسب العلم ثم الإرادة ثم القدرة ثم البصر وفي النهاية الكلام، فيصبح هو بدوره يخلق بالكلام ولكن ليس خلقا ماديّا وإنما خلقا معنويا وهي الصور التي ينشئها في نفس السامع حين يخاطبه.
وهكذا فإن حياة ابن العربي بدأت على الحقيقة قبل تاريخ ولادته بزمن طويل، بل منذ الأزل، حين كان ما يزال في عالم الذرّ، ولم يكن له وجود فعليّ، وإنما وجود معنوي، به استطاع أن يسمع أمر الله له بالتكوين فيطيعه.
فلما خرج إلى الحياة تنقّل في خمسة أطوار، وهي خمسة حركات، أو أسفار:
السفَر الأوّل من الله إلى العالم، وهو وقت الصبح، وفيه تنشأ شخصيته، وهي مرحلة اللعب واللهو، كما أشارت إلى ذلك الآيات الكريمة في سورة الحديد: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [20] سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [21]﴾.
ثم سفرٌ في العالم حتى يكتشفه ويصل منه إلى الله تعالى، وهذا السفر هو وقت الضحى، وهي مرحلة الزينة والتفاخر،
ثم سفرٌ في الله تعالى بعد أن يفنى الإنسان عن العالم، وهو وقت الظهر أو الزوال، وهي مرحلة التكاثر،
ثم يعود إلى العالم من جديد، ولكن بصورة مختلفة، بعد أن اكتمل علمه بالله من كون إله وليس من حيث ذاته سبحانه وتعالى أن يعلمه أحد سواه، وهذه هي مرحلة العصر التي يسافر فيها الإنسان “لينصح عباد الله” ويدعوهم إليه، وفيها يهيج النبات فتراه مصفرّاً،
ثمّ، بعد أن يقضي ما قدّر الله له من الدعوة، يكون حطاما، ينتهي بالموت، لينتقل من جديد إلى الله تعالى ولا يبقى في الدنيا إلا أثره.
هذه هي خمسة أطوار، تضاف إلى الطور الأول الذي هو قبل التكوين، فتكون ستة أطوار أو أيّام يتم فيها الخلق، وتقوم في آخرها القيامة وهي يوم الأبد فتنتهي الدنيا وتبدأ الآخرة التي فيها عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان.
فسابقوا إلى جنّة عرضها السماوات والأرض أعدّت للمتقين، كما ذكر الله تعالى في سورة الحديد [20-21].
وأما حياته الدنيا وما ملك فيها من أموال وأولاد وزينة؛ فكل ذلك زبَد، فيذهب جفاءً، وأما ما ينفع الناس، فيبقى إلى اليوم السابع، وهو وقت العشاء، وهو ما وصلنا من علوم الشيخ الأكبر، فذلك يمكث في الأرض، كما أشارت الآية الأخرى [القرآن، 13:17].
فهل سننتفع به، لنكون من المتقّين!