3.1.5 - قبل أن يعبر المضيق (الجزيرة الخضراء، 589/1192)
يذكر لنا تلميذُه مؤيّدُ الدين الجندي أن الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي قد قال لتلميذه صدر الدين القونوي الذي سنذكره لاحقا أنه لما وصل إلى البحر أخذ على نفسه عهدا أنه لن يقطع البحر حتى يُكشف له عن أحواله الداخلية والخارجية التي سيكون عليها حتى وقت وفاته. فتوجّه ابن العربي إلى الله تعالى بالدعاء بإخلاصٍ وحضورٍ تامٍّ حتى أشهده الله كلَّ أحواله المستقبلية حتى أيامه الأخيرة. فيقول الشيخ الأكبر لصدر الدين أنه علم من ذلك الوقت أن أباه اسحق بن محمد سيكون صاحبه، حتى إنه اطّلع على أحواله ومعرفته التي سيصل إليها، والخبرات والمقامات والتجليات التي سيمنحها الله له، أي لصدر الدين. وفقط بعد ذلك عبر الشيخ الأكبر البحر على بصيرةٍ ويقينٍ من مصيره. ويقول الشيخ له أنّ كلَّ شيء حدث معه تماما كما هو مقدّرٌ أن يكون.[292]
على كل حال يجب أن لا نأخذ هذا التقرير على أن الشيخ محي الدين يعلم الغيب أو قد علم الغيب، وإنما ذلك نوع من الاستشراف الذي تكلم عنه الشيخ محي الدين مرارا، وهو أن تستشفّ ما سيكون عليه الأمر على وجه الإجمال، ورغم أن الشيخ هنا يذكر تفاصيل دقيقة، ولكن كلّ ذلك يعدّ معرفة إجمالية، فالمعرفة التفصيليّة الحقيقية هي أن نعيش الأحداث كما هي، أما المعرفة الإجمالية فهي تشبه الرؤيا التي يراها النائم. وفي كل الأحوال فإن هذه المعرفة تأتي من لوح المحو والإثبات الذي يمحو الله ويُثبت ما يشاء فيه (وعنده أمّ الكتاب التي هي اللوح المحفوظ)، ولا تأتي من الغيب المطلق الذي هو اللوح المحفوظ. من أجل ذلك نجد أن الشيخ محي الدين مثلا، وكما نوّهت كلوديا عدّاس،[293]لم يكن قد قرّر أنه لن يعود إلى الأندلس حين غادر لأول مرة إلى مكة سنة 598، بل ذكر لصاحبه عبد العزيز المهدوي في مقدمة الفتوحات المكية أنه نوى "الحج والعمرة، ثم يُسرع إلى مجلسه الكريم الكرّة"،[294]فهنا تتساءل كلوديا عداس فيما إذا كان هذا يتناقض مع كونه قد علم على وجه الإجمال ما سيؤول إليه مصيره؟ أنا لا أرى أي تناقض؛ لأن الشيخ محي الدين رضي الله عنه حين كُشف له عن أحواله المستقبلية فمن ضمن ما علمه ما ينوي عمله وإن لم يعمله، فهو ما كان يعرف وقتها أنه لن يعود إلا على وجه الإجمال الذي يكسبه نوعا من الظنّ القريب من اليقين ولكنه ليس يقينا، كمن يرى رؤيا مبشّرة وهو واثق بها ولكنه لا يعرف بالتحديد كيف ستتحقق هذه الرؤيا، ولذلك يتصرّف كما لو أنه غير متأكد وينتظر انكشاف المستقبل حتى يؤكّد نبوءته. وهذا الكلام في الحقيقة ينطبق على البشارة التي تلقاها الشيخ الأكبر في قرطبة سنة 586 ثم توالت عليه التأكيدات، كما سنرى، في تونس سنة 590 وفي فاس سنة 594 ثم في مكة سنة 599 أنه هو خاتم الولاية المحمدية، ومع ذلك لم يكن يتصرّف وفق هذه البشارات حتى تأكّد له الأمر وحصل بالواقع في مكة سنة 599.[295]