شمس المغرب - سيرة لأكبر محي الدين ابن العربي ومذهبه
شمس المغرب - سيرة لأكبر محي الدين ابن العربي ومذهبه

البداية
الجزء الأوّل
الجزء الثاني
الجزء الثالث
اتصل بنا
مرحبًا بكم في شمس المغرب ( يرجى الدخول أو التسجيل)
المقدمات
الفصول
المحتويات

4.5.3.2 - قرّة العين

بعد هذه الحادثة وهذا التبادل الشعري بين الشيخ محي الدين ابن العربي وهذه الفتاة التي كانت لا شكّ تعرفه وتعرف مقداره، وبعد أن انصرفت الفتاة سأل عنها الشيخ محي الدين فعرفها، ويقول إنه بعد ذلك عاشرها ورأى عندها من لطائف المعارف ما لا يصفه واصف.

ولكن السؤال الذي أثار قريحة النقّاد وحتى المحبين: ما هي علاقة نظام بالشيخ محي الدين؟ هل هي علاقة مشروعة، أم هل يليق بشيخ مثله أن يتغزّل بفتاة، مهما كانت بالنسبة له.

في الحقيقة يصعب تحديد هذه العلاقة بشكل جازم، فليس لنا أن نحكم على الغيب الماضي إذا لم تتوفر لنا المصادر، ولكن من غير المستبعد، بل من الواضح وربّما من المؤكد، أن يكون الشيخ الأكبر رضي الله عنه قد تزوج هذه الفتاة، فإن جوابه لها فيه خِطبة صريحة ليس فيه مواراة؛ فعندما سألها عن اسمها، قالت: "قرة العين"، فرَدّ بدون تفكير: "لي". ثم يقول إنه بعد ذلك عرفها وعاشرها ورأى عندها من لطائف المعارف ما لا يصفه واصف. فلا يكون ذلك من غير أن يكون قد تزوجها، أو على الأقل خطبها ثمّ فرّق الزمان بينهما كما سنحلّل ذلك الاحتمال بعد قليل. ولا ننسى من هي ومن هو؛ فما هي غانية شاردة، بل هي بنت أصل وشرف ودين، وما هو إلا محي الدين وسلطان العارفين وخاتم الأولياء المكمّلين. فلا يجوز أن نترك المجال للقلوب المريضة أن تذهب شرقاً وغرباً، وتظنّ أنها قد اكتشفت في نظام الكون عيباً.

وهناك إشارات واضحة أخرى تؤكد ما ذهبنا إليه، فهو يقول في "محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار" بعد أن ذكر قصة لقائهما الأول التي رويناها أعلاه: "وكان لنا أهل تقرّ العين بها، ففرّق الدهر بيني وبينها، فتذكّرتها، ومنزلها بالحِلَّة من بغداد".[581]فكلمة "أهل" تعني بشكل صريح الزوجة، وعبارة "تقرّ العين بها" مشتقّة من اسمها "قرّة العين". ومعروف أن هذه الفتاة نظام وأهلها ليسوا من أهل مكة، بل هي روميّة، وكانت بلاد الروم في ذلك الوقت بلاد إسلام خاضعة مع شمال العراق إلى الدولة السلجوقية. وقد توفي والد نظام الشيخ أبو شجاع الأصفهاني سنة 609/1212، فمن غير المستبعد أن تكون نظام قد غادرت مع أهلها إلى العراق بعد وفاة والدها. بل يصرّح الشيخ محي الدين فيقول إن نظام، التي كتب فيها ومن أجلها ترجمان الأشواق، كانت ساكنة في بغداد، فيقول في كتاب ترجمان الأشواق الذي لم يُكتب في سنة 598/1201 حين التقى الشيخ محي الدين بنظام، بل بعد ذلك بسنوات عديدة في سنة 611/1214، مع احتمال كتابة بعض القصائد التي فيه قبل ذلك، يقول ابن العربي:

أَحبّ بلاد الله لي بعد طيبة
وما ليَ لا أهوى السلام ولي بها
وقد سكنتها من بنيّات فارس
تحيّي فتُحيي من أماتت بلحظه

ومكة والأقصى مدينة بغدان
إمام هدىً ديني وعقدي وإيماني
لطيفة إيماءٍ مريضة أجفان
فجاءت بحسنى بعد حسنٍ وإحسان[582]

وعلى كل حال، كما قلنا، يصعب تحديد علاقة الشيخ محي الدين بنظام إلا على وجه التخمين وغلبة الظن، ولكن حسن الظن واجب، فربما يكون قد تزوجها أو على الأقل خطبها، ثم حالت الظروف بينهما. وهناك بعض الإشارات تؤكد نظرية الخِطبة أيضاً.

فيقول الشيخ محي الدين في الفتوحات المكية بعد أن ذكر كتاب ترجمان الأشواق وانتقاد بعض فقهاء حلب له ثم توبتهم بعد أن شرح هذا الكتاب في ذخائر الأعلاق، كما سنعود إلى ذلك عند الحديث عن هذه الكتب، يقول الشيخ بعد ذلك موضحا ضرورة حسن الظن قبل الرجم طالما لا يوجد يقين؛ فيقول إنه لو رأينا رجلاً ينظر إلى وجه امرأة وهو خاطب لها ونحن لا نعرف أنه خاطب وكنّا منصفين في الأمر، لم نُقدِم على الإنكار عليه إذا جهلنا حاله حتى نسأله ما دعاه إلى ذلك. فإن قال أو قيل لنا أنه خاطب لها، أو هو طبيب وبها مرض يستدعي في ذلك المرض نظر الطبيب إلى وجهها، علمنا أنه ما نظر إلاّ إلى ما يجوز له النظر إليه فيه، بل نظره عبادة لورود الأمر من الرسول صلّى الله عليه وسلّم في ذلك. ولا يُنكَر عليه ابتداءً مع وجود هذا الاحتمال؛ فليس الإنكار عليه من المنكِر بأولى من الإنكار على المنكِر في ذلك، مع إمكان وجود هذه الاحتمالات.

ثم يضيف رضي الله عنه أن هذا مما يغلظ فيه كثير من المتديّنين، لا من أصحاب الدين؛ فإن أصحاب الدين المتين أوّل ما يحتاط أحدهم على نفسه ولا سيّما في الإنكار خاصة، لأن الله ندبنا إلى حسن الظن بالناس لا إلى سوء الظن بهم، فلا ينكر صاحب الدين مع الظن وقد سمع قول الله تعالى في سورة الحجرات:[b](([/b]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ[b] ... [12]))[/b]، فلعلّ هذا من ذلك البعض وإثمه أن ينطق به، وإن وافق العلم في نفس الأمر (أي وإن كان صحيحاً في النهاية)، فإن الله يؤاخذه بكونه ظنّ وما علم، فنطق فيه بأمرٍ محتملٍ ولم يكن له ذلك. ثم يضيف الشيخ رضي الله عنه فيقول إن سوء ظن الإنسان بنفسه أولى من سوء ظنه بالغير لأنه من نفسه على بصيرة وليس هو من غيره على بصيرة.[583]

ولكن السؤال الذي ربّما يكون مشروعا هو أنّه إن كان تزوّجها فعلا أو خطبها لماذا لم يصرّح بذلك دفعا للريبة والغيبة. فالجواب على ذلك السؤال هو أننا حقيقة لا نملك من كتب الشيخ محي الدين ابن العربي التي كتبها إلا اليسير وأكثرها تعتبر مفقودة حتى الآن، فربما كان قد ذكر ذلك ولم يصلنا. من جهة أخرى نحن نرى بوضوح من خلال ما نقلناه في الفصل الثاني وما بعده أنّ الشيخ محي الدين نادرا ما يتكلّم عن حياته الشخصية العائليّة وهو إنّما يذكر علاقته بشيوخه تذكيرا بأحوال أهل الله وليس تسجيلا لسيرته الذاتية، وهذا أمر واضح من خلال كتبه وخاصة روح القدس والدرّة الفاخرة. وقد رأينا في الفصل الثاني كيف أنه لا يتحدّث عن أمّه كثيرا ولا حتى عن أبيه إلا بشكل عابر، ولم يذكر اسم أمّه نور في كتبه إلا مرّة واحدة حين نقل قول فاطمة بنت ابن المثنى لها في عبارتها الشهيرة: "يا نور هذا ولدي وهو أبوك فبُرّيه ولا تعقّيه".[584]وسوف نرى في الفقرات التالية أنّه نادراً ما يذكر أسماء زوجاته أو أيّ شيء عن عائلته وحياته الشخصية.