شمس المغرب - سيرة لأكبر محي الدين ابن العربي ومذهبه
شمس المغرب - سيرة لأكبر محي الدين ابن العربي ومذهبه

البداية
الجزء الأوّل
الجزء الثاني
الجزء الثالث
اتصل بنا
مرحبًا بكم في شمس المغرب ( يرجى الدخول أو التسجيل)
المقدمات
الفصول
المحتويات

3.8.11 - الشيخ المسرف (مرسية 595/1199)

وفي مرسية أيضاً التقى الشيخ محي الدين برجل فقيه إمام متكلم ولكنه كان مسرفا على نفسه يشرب الخمر مع رفاق السوء، إلا أنه مع ذلك كان لا يصرّ على المعصية كما أخبره عنه بعض الصالحين بمدينة قرطبة أنه ولقد أخبرني بعض الصالحين بمدينة قرطبة أنه سمع أن بمرسية رجلاً عالماً كان مسرفاً على نفسه فقصد زيارته فامتنع من الخروج إليه لراحة كان عليها مع إخوانه فلما أبى إلا رؤيته فقال العالم أخبروه بالذي أنا عليه، فقال لا بدّ لي منه، فدخل عليه وقد فرغ ما كان بأيديهم من الخمر، فقال له بعض الحاضرين: أكتب إلى فلان يبعث إلينا شيئاً من الخمر، فقال: لا أفعل! أتريدون أن أكون مصراً على معصية الله؟ والله ما أشرب كأساً إذا تناولته إلا وأتوب عُقَيبه إلى الله تعالى ولا أنتظر الكأس الآخر ولا أحدّث به نفسي، فإذا وصل الدور إليّ وجاء الساقي بالكأس ليناولني إيّاه أنظر في نفسي فإن رأيت أن أتناوله منه تناولته وشربته وتبت.[489]

ولذلك يقول الشيخ الأكبر في الوصايا عندما يذكر هذه القصة: وإياك والإصرار وهو الإقامة على الذنب، بل تب إلى الله في كل حال وعلى أثر كل ذنب. وقال في موضع آخر من الفتوحات أيضاً عندما ذكر هذه القصة أن الحقّ أشهده في سرّه في واقعة وقال له بلّغ عبادي ما عاينته من كرمي بالمؤمن؛ الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والسيئة بمثلها. فيقول ابن العربي أن السيّئة لا يقاوم فعلها الإيمان بها أنها سيئة وينقل قول الله تعالى: ما لعبادي يقنطون من رحمتي ورحمتي وسعت كل شيء وأنا عند ظن عبدي بي فليظن بي خيراً.[490]

ولم يذكر الشيخ رضي الله عنه اسم هذا الشخص مع أنه التقاه ويعرفه ويقول: ما منعني أن أسميه إلا خوفي أن يُعرف إذا سميته. فإن ذلك يعدّ غيبة. وكان هذا الشخص في أشدّ الشوق لرؤية ابن العربي ولكنه عندما اجتمع به في مرسية سنة 595 لم يعرفه، بل سأله عنه، ومات وفي قلبه حسرة من كونه لم يلقاه.

3.8.11 - مواقع النجوم، (المرية، رمضان 595/1199)

لما ودّع الشيخ الأكبر مرسية الوداع الأخير مرّ هو وصحبه في طريق عودتهم بالمرية وهي مدينة تقع على الشاطئ الجنوبي للأندلس بين مرسية وقرطبة. وهناك هلّ عليه هلال شهر رمضان فأقام فيها يتعبّد ويتهجّد، وهناك رأى الحقَّ تعالى في المنام مرتين وهو يقول له: "انصح عبادي" فلبّى الأمرَ عندما جاءه رسول الإلهام بتأليف كتاب "مواقع النجوم ومطالع أهلّة الأسرار والعلوم" الذي ألّفه في أحد عشر يوما من النصف الثاني من شهر رمضان سنة 595 في مدينة المرية. وهذا الكتاب هو من أهم كتب الشيخ محي الدين ابن العربي وهو يقارب بمرتبته الفتوحات المكية وفصوص الحكم رغم صغر جرمه ولكنه لم يحظى بالعناية الكافية من الشارحين والدارسين ربما لأنه مبني على الإشارة والرمز. يذكره الشيخ الأكبر في الفتوحات المكية كثيرا ويشير إليه كلما دعت الحاجة لمزيد من التفصيل وضاق عنها المحل، وهو يقول عنه في الباب الثامن والستين من الفتوحات حينما كان يذكر تكاليف أعضاء الجسم من يدٍ ورجلٍ وقلبٍ وعقلٍ:

وقد بيناها بكمالها وما لها من الأنوار والكرامات والمنازل ‏والأسرار والتجليات في كتابنا المسمى مواقع النجوم ما سبقنا في علمنا في هذا الطريق إلى ‏ترتيبه أصلا و قيدته في أحد عشر يوما في شهر رمضان بمدينة المرية سنة خمس وتسعين ‏وخمسمائة، يغني عن الأستاذ، بل الأستاذ محتاج إليه، فإن الأستاذين فيهم العالي والأعلى، ‏وهذا الكتاب على أعلى مقام يكون الأستاذ عليه ليس وراءه مقام في هذه الشريعة التي ‏تعبدنا بها فمن حصل لديه فليعتمد بتوفيق الله عليه فإنه عظيم المنفعة. وما جعلني أن أعرفك ‏بمنزلته إلا أني رأيت الحق في النوم مرتين وهو يقول لي انصح عبادي، وهذا من أكبر ‏نصيحة نصحتك بها والله الموفق وبيده الهداية وليس لنا من الأمر شيء.[491]

وكذلك يقول عنه في الباب الثامن والستين ومائة أنه ما سبقه أحد إلى ترتيبه، لا إلى علم ما فيه، وهو كتاب صحيح الطريق عظيم الفائدة صغير الجرم بناه على المناسبة[492]فإن المناسبة أصل وجود العالم.[493]

وفي بداية هذا الكتاب مواقع النجوم يذكر الشيخ الأكبر سبب تأليفه بمزيد من التفصيل فيقول:

لما شاء الله أن يخرج هذا الكتاب الكريم إلى الوجود ويتحف خلقه بما اختاره لهم من لطائفه وبركاته في خزائن جوده على يدي من شاء من عبيده، حرّك خاطري امتطاء المطية من المرسية إلى المرية فامتطيت الرحال وأخذت في الترحال مرافقا أطهر عصبة وأكرم فتية سنة خمس وتسعين وخمسمائة، فلما وصلتها لأقضي أمورا أملتها تلقاني شهر رمضان المعظم بهلاله وصافحني على مسامرته بها إلى أوان انفصاله، فألقيت بها عصا التسيار وأخذت في الذكر والاستغفار، وكان لي أكرم جليس وأحسن أنيس. فبينما أنا أتبتل وأتخضّع وأخشع في بيوت أذن الله أن ترفع، وقد أقمر هلاله وفاز بما مضى من أيامه ولياليه رجاله، إذ أرسل إليّ سبحانه رسول إلهامه مؤيّدا ثم أردفه بما أوحى به للابن التقي (ربما يقصد بدر الحبشي) في منامه، فوافق المنام الإلهام، ونظم عقد الحكم في هذا الكتاب أبدع نظام، وعلمت عند ذلك أنني كما ذكرته من شاء من عباده في إبراز هذا الكتاب وإيجاده، وأني الخازن على هذا العلم والمتحكم في هذه المراسم؛ فنفث في روعي روحه القدسي، وطلع بأفق سماء همتي بدره البديع، فانبعث الروح العقلي لتصنيفه، وتوفرت دواعيه لتأليفه، ونظر الروح الفكري في تكييفه الرفيع وحسن نظمه البديع، فرتبته على ثلاث مراتب، وسلكت في أنجح المذاهب.[494]

ثم يُشرع الشيخ في تفصيل برنامج الكتاب وأنه كما ذكر على ثلاث مراتب هي مرتبة العناية وهي التوفيق، والهداية وهي علم التحقيق، والولاية وهي التي توصل إلى مقام الصدّيق. ثم جعل كل مرتبة تجري على تسعة أفلاك ثلاثة منها إسلامية وثلاثة إيمانية وثلاثة إحسانية، فالإسلامية جسمانية والإيمانية نفسانية والإحسانية روحانية، ثم قسّم فقرات الكتاب إلى مطالع ومنازل ووزّع الأفلاك على أعضاء جسم الإنسان وحواسه، فكان في الجملة كتاب لطيف شريف بديع فيه من العلم ما يفيد الجميع.

ولكن الشيخ محي الدين يقول في كتاب "حلية الأبدال" أنه بعد أن انتشر كتاب مواقع النجوم في البلاد استدرك عليه الشيخ محي الدين وزاد قسما خاصا بعضو القلب سنة 597/1200 في مدينة بجاية.[495]