شمس المغرب - سيرة لأكبر محي الدين ابن العربي ومذهبه
شمس المغرب - سيرة لأكبر محي الدين ابن العربي ومذهبه

البداية
الجزء الأوّل
الجزء الثاني
الجزء الثالث
اتصل بنا
مرحبًا بكم في شمس المغرب ( يرجى الدخول أو التسجيل)
المقدمات
الفصول
المحتويات

3.5.15 - الفناء عن المعاصي (فاس، 591)

يذكر الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي في الباب العشرين ومائتان في معرفة الفناء وأسراره أن الفناء عند الطائفة يقال بإزاء أمور فمنهم من قال إن الفناء فناء المعاصي ومن قائل الفناء فناء رؤية العبد فعله بقيام الله على ذلك وقال بعضهم الفناء فناء عن الخلق وهو عندهم على طبقات منها الفناء عن الفناء وأصّله بعضهم إلى سبع طبقات ذكرها الشيخ محي الدين في هذا الفصل وذكرناها في كتاب"سلوك القلب من الوجود إلى الفناء ثم البقاء". ثم يقول الشيخ رضي الله عنه أن الفناء لا يكون إلا عن كذا كما أن البقاء لا يكون إلا بكذا ومع كذا، وفي طريق أهل الله لا يكون الفناء إلا عن أدنى بأعلى وأما الفناء عن الأعلى فليس هو اصطلاح القوم وإن كان يصح لغة.

فأما الطبقة الأولى في الفناء فهي أن تفنى عن المخالفات فلا تخطر لك ببال عصمة وحفظاً إلهياً، ورجال الله هنا على قسمين: القسم الواحد رجال لم يُقدّر عليهم المعاصي فلا يتصرفون إلا في مباح وإن ظهرت منهم المخالفات المسماة بالمعاصي شرعاً في الأمة إلا أن الله وفّق هؤلاء، فكانوا ممن أذنبوا فعلموا أن لهم رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب فقيل لهم على سماع منهم لهذا القول "اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم"، كأهل بدر؛[423]ففنيت عنهم أحكام المخالفات فما خالفوا فإنهم ما تصرفوا إلا فيما أبيح لهم فإن الغيرة الإلهية تمنع أن ينتهك المقربون عنده حرمة الخطاب الإلهي بالتحجير وهو غير مؤاخذ لهم لما سبقت لهم به العناية في الأزل فأباح لهم ما هو محجور على الغير وسائر من ليس له هذا المقام لا علم له بذلك فيحكم عليه بأنه ارتكب المعاصي وهو ليس بعاص كلام الله المبلغ على لسان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكأهل البيت حين أذهب الله عنهم الرجس ولا رجس أرجس من المعاصي وطهرهم تطهيرا وهو خبر والخبر لا يدخله النسخ وخبر الله صدق وقد سبقت به الإرادة الإلهية فكل ما ينسب إلى أهل البيت مما يقدح فيما أخبر الله به عنهم من التطهير وذهاب الرجس فإنما ينسب إليهم من حيث اعتقاد الذي ينسبه لأنه رجس بالنسبة إليه، وذلك الفعل عينه ارتفع حكم الرجس عنه في حق أهل البيت؛ فالصورة واحدة فيهما والحكم مختلف.

والقسم الآخر رجال اطّلعوا على سرّ القدر وتحكّمه في الخلائق وعاينوا ما قُدّر عليهم من جريان الأفعال الصادرة منهم من حيث ما هي أفعال لا من حيث ما هي محكوم عليها بكذا أو كذا، وذلك في حضرة النور الخالص الذي منه يقول أهل الكلام: أفعال الله كلها حسنة ولا فاعل إلا الله، فلا فعل إلا لله. وتحت هذه الحضرة حضرتان حضرة السدفة وحضرة الظلمة المحضة؛ وفي حضرة السدفة ظهر التكليف وتقسّمت الكلمة إلى كلمات وتميّز الخير من الشرّ، وحضرة الظلمة هي حضرة الشرّ الذي لا خير معه، وهو الشرك، والفعل الموجب للخلود في النار وعدم الخروج منها، وإن نَعِم فيها. فلما عاين هؤلاء الرجال من هذا القسم ما عاينوه من حضرة النور بادروا إلى فعل جميع ما علموا أنه يصدر منهم وفنوا عن الأحكام الموجبة للبعد والقرب ففعلوا الطاعات ووقعوا في المخالفات كل ذلك من غير نيّة لقرب ولا انتهاك حرمة. فيقول الشيخ محي الدين أن هذا فناء غريب أطلعنه الله عليه بمدينة فاس ولم ير له ذائقاً مع علمه بأن له رجالاً ولكن لم يلقهم ولا رأى أحداً منهم، غير أنه يقول إنه رأى حضرة النور وحكم الأمر فيها غير أنه لم يكن لتلك المشاهدة فيه حكم بل أقامه الله في حضرة السدفة وحفظه وعصمه، فكان له حكم حضرة النور وأقامه في السدفة وهو عند القوم أتم من الإقامة في حضرة النور.[424]

والفناء شأنه عجيب، وقد تكلمنا عنه في كتاب سلوك القلب،[425]ومن أعجب ما حدث لبعض أصحاب الشيخ محي الدين في مدينة فاس وهو الأستاذ النحوي عبد العزيز بن زايد وكان ينكر حال الفناء، ولكنه ذات يوم دخل على الشيخ محي الدين وهو فرح مسرور فقال له: يا سيدي الفناء الذي تذكره الصوفية صحيح عندي بالذوق قد شاهدته اليوم! قال له كيف؟ قال: ألست تعلم أن أمير المؤمنين دخل اليوم من الأندلس إلى هذه المدينة؟ قلت له بلى، قال اعلم أني خرجت أتفرج مع أهل فاس فأقبلت العساكر فلما وصل أمير المؤمنين ونظرت إليه فنيت عن نفسي وعن العسكر وعن جميع ما يحسه الإنسان وما سمعت دوي الكوسات ولا صوت طبل مع كثرة ذلك ولا البوقات ولا ضجيج الناس ولا رأيت ببصري أحداً من العالم جملة واحدة سوى شخص أمير المؤمنين. ثم أنه ما أزاحني أحد عن مكاني ووقفت في طريق الخيل وازدحام الناس وما رأيت نفسي ولا علمت أني ناظر إليه بل فنيت عن ذاتي وعن الحاضرين كلهم بشهودي فيه، ولما انحجب عني ورجعت إلى نفسي أخذتني الخيل وازدحام الناس فأزالوني عن موضعي وما تخلصت من الضيق إلا بشدة وأدرك سمعي الضجيج وأصوات الكوسات والبوقات فتحققت أن الفناء حق وأنه حال يعصم ذات الفاني من أن يؤثر فيه ما فني عنه. فيقول ابن العربي: هذا يا أخي فناء في مخلوق فما ظنك بالفناء في الخالق![426]