شمس المغرب - سيرة لأكبر محي الدين ابن العربي ومذهبه
شمس المغرب - سيرة لأكبر محي الدين ابن العربي ومذهبه

البداية
الجزء الأوّل
الجزء الثاني
الجزء الثالث
اتصل بنا
مرحبًا بكم في شمس المغرب ( يرجى الدخول أو التسجيل)
المقدمات
الفصول
المحتويات

3.5.6 - الصوفية والملامية

ولقد ذكرنا في المقدمة أن الصوفية هم على الحقيقة صنف من أصناف رجال الله الذين يقسمهم الشيخ محي الدين إلى ثلاثة أصناف: العبّاد والصوفية والملامية. ويقول الشيخ محي الدين أن عبد الله بن تاخمست وأبو عبد الله المهدوي كانا من الملامية، وهو مقام رفيع بين أهل الله فوق مقام العبّاد والصوفية. ففي الباب التاسع وثلاثمائة "في معرفة منزل الملامية من حضرة المحمدية" يقول الشيخ الأكبر رضي الله عنه أن هذا المقام هو مقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر الصديق رضي الله عنه وضيف أن ممن تحقق به من الشيوخ: حمدون القصار، وأبو سعيد الخراز، وأبو يزيد البسطامي. وفي زمانه منهم: أبو السعود بن الشبل، وعبد القادر الجيلي، ومحمد الأواني، وصالح البربري، وأبو عبد الله الشرفي، ويوسف الشبريلي، ويوسف بن تعز، وابن جعدون الحناوي، ومحمد بن قسوم، وأبو عبد الله بن المجاهد، وعبد الله بن تاخمست، وأبو عبد الله المهدوي، وعبد الله القطان، وأبو العباس الحصار، والكثير مما يضيق الكتاب عن ذكرهم.

ثم يوضح الشيخ محي الدين في هذا الباب أن رجال الله ثلاثة لا رابع لهم وهو العبّاد، والصوفية، والملامية. فالعبّاد هم رجال غلب عليهم الزهد والتبتل والأفعال الطاهرة المحمودة كلها، وطهروا أيضاً بواطنهم من كل صفة مذمومة قد ذمها الشارع، غير أنهم لا يرون شيئاً فوق ما هم عليه من هذه الأعمال ولا معرفة لهم بالأحوال ولا المقامات ولا العلوم الوهبية اللدنية ولا الأسرار ولا الكشوف ولا شيئاً مما يجده غيرهم.

وأما الصوفية فمقامهم فوق مقام العبّاد وهم يرون الأفعال كلها لله وأنه لا فعل لهم أصلاً فزال عنهم الرياء جملة واحدة وإذا سألتهم في شيء مما يحذره أهل الطريق يقولون:[b](([/b]أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ[b]))[/b][الأنعام: 40]، ويقولون: [b](([/b]قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ[b]))[/b][الأنعام: 91]، وهم مثل العبّاد في الجد والاجتهاد والورع والزهد والتوكل وغير ذلك، غير أنهم مع ذلك يرون أن ثم شيئاً فوق ما هم عليه من الأحوال والمقامات والعلوم والأسرار والكشوف والكرامات فتتعلق هممهم بنيلها، فإذا نالوا شيئاً من ذلك ظهروا به في العامة من الكرامات لأنهم لا يرون غير الله، وهم أهل خُلق وفتوة. ولكنهم بالنسبة إلى الملامية فهم أهل رعونة وأصحاب نفوس وتلامذتهم مثلهم أصحاب دعاوى يشمرون على كل أحد من خلق الله ويظهرون الرياسة على رجال الله.

وأما الصنف الثالث وهم الملامية فهم رجال لا يزيدون على الصلوات الخمس إلا الرواتب لا يتميزون عن المؤمنين المؤدين فرائض الله بحالة زائدة يُعرفون بها، يمشون في الأسواق ويتكلمون مع الناس، لا يبصر أحد من خلق الله واحداً منهم يتميزون عن العامة بشيء زائد من عمل مفروض أو سنة معتادة في العامة، قد انفردوا مع الله راسخين لا يتزلزلون عن عبوديتهم مع الله طرفة عين، ولا يعرفون للرياسة طعماً لاستيلاء الربوبية على قلوبهم وذلتهم تحتها. قد أعلمهم الله بالمواطن وما تستحقه من الأعمال والأحوال؛ وهم يعاملون كل موطن مما يستحقه، قد احتجبوا عن الخلق واستتروا عنهم بستر العوام فإنهم عبيد خالصون مخلصون لسيّدهم، مشاهدون إياه على الدوام في أكلهم وشربهم ويقظتهم ونومهم وحديثهم معه في الناس، يضعون الأسباب مواضعها ويعرفون حكمتها حتى تراهم كأنهم الذي خلق كل شيء مما تراهم من إثباتهم الأسباب وتحضيضهم عليها؛ يفتقرون إلى كل شيء لأن كل شيء عندهم هو مسمّى الله ولا يُفتقر إليهم في شيء لأنه ما ظهر عليهم من صفة الغنى بالله ولا العزة به ولا أنهم من خواص الحضرة الإلهية أمر يوجب افتقار الأشياء إليهم، وهم يرون كون الأشياء لا تفتقر إليهم ويفتقرون إليها كون الله قال للناس: [b](([/b]يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ[b]))[/b][فاطر: 15]، فهم وإن استغنوا بالله فلا يظهرون بصفة يمكن أن يطلق عليهم منها الاسم الذي قد وصف الله نفسه به وهو الاسم الغني، وأبقوا لأنفسهم ظاهراً وباطناً الاسم الذي سماهم الله به وهو "الفقير"، وقد علموا من هذا أن الفقر لا يكون إلا إلى الله الغنيّ، ورأوا الناس قد افتقروا إلى الأسباب الموضوعة كلها وقد حجبتهم في العامة عن الله، وهم على الحقيقة ما افتقروا في نفس الأمر إلا إلى من بيده قضاء حوائجهم وهو الله، قالوا فهنا قد تسمى الله بكل ما يُفتقر إليه في الحقيقة والله لا يَفتقر إلى شيء، فلهذا افتقرت هذه الطائفة إلى الأشياء ولم تفتقر إليهم الأشياء، وهم من الأشياء، والله لا يفتقر إلى شيء، ويفتقر إليه كل شيء. فهؤلاء هم الملامية وهم أرفع الرجال وتلامذتهم أكبر الرجال يتقلبون في أطوار الرجولية وليس ثم من حاز مقام الفتوة والخلق مع الله دون غيره سوى هؤلاء؛ فهم الذين حازوا جميع المنازل ورأوا أن الله قد احتجب عن الخلق في الدنيا وهم الخواص له فاحتجبوا عن الخلق لحجاب سيدهم فهم من خلف الحجاب لا يَشهدون في الخلق سوى سيدهم، فإذا كان في الدار الآخرة وتجلى الحق ظهر هؤلاء هناك لظهور سيّدهم فمكانتهم في الدنيا مجهولة العين.

فالعبّاد متميزون عند العامة بتقشّفهم وتبعّدهم عن الناس. والصوفية متميزون عند العامة بالدعاوي وخرق العوائد من الكلام على الخواطر وإجابة الدعاء والأكل من الكون وكل خرق عادة لا يتحاشون من إظهار شيء مما يؤدي إلى معرفة الناس به قربهم من الله فإنهم لا يُشاهدون في زعمهم إلا الله وغاب عنهم علم كبير، وهذا الحال الذي هم فيه قليل السلامة من المكر والاستدراج. وأما الملامية فلا يتميزون عن أحد من خلق الله بشيء فهم المجهولون حالهم حال العوام.

وسبب تسميتهم بالملامية هو لأحد أمرين حسب مرتبتهم: فيطلق هذا الاسم على تلامذتهم لكونهم لا يزالون يلومون أنفسهم في جنب الله. وأما الأكابر منهم فيُطلق عليهم في ستر أحوالهم ومكانتهم من الله حيث فعلوا مثل العامة في لوم من يفعل المذموم لكونهم لم يروا الأفعال من الله وإنما يرونها ممن ظهرت على يده فناطوا اللوم والذمّ بها، فلو كشف الغطاء ورأوا أن الأفعال لله لما تعلّق اللوم بمن ظهرت على يده وصارت الأفعال عندهم في هذه الحالة كلها شريفة حسنة.[404]