شمس المغرب - سيرة لأكبر محي الدين ابن العربي ومذهبه
شمس المغرب - سيرة لأكبر محي الدين ابن العربي ومذهبه

البداية
الجزء الأوّل
الجزء الثاني
الجزء الثالث
اتصل بنا
مرحبًا بكم في شمس المغرب ( يرجى الدخول أو التسجيل)
المقدمات
الفصول
المحتويات

4.4 - الاختلاف في اسم الملك المجاز

ذكرنا أنَّ هناك خلاف حول اسم الملك الأيوبي الذي كتبت له الإجازة، فبعض المخطوطات تشير إلى أنَّ الشيخ محي الدين كتبها إلى الملك العادل أبي بكر ابن أيوب، وهو الذي توفي سنة 615 هـ، في حين إنَّ أغلبها – وهو الصحيح – يشير إلى ولده شهاب الدين غازي الذي توفي سنة 645 هـ، بحسب أغلب المصادر، وبعض المؤرخين يحدد وفاته سنة 642 هـ، وبعضهم يقول سنة 639 هـ، وخلَّف ثلاثة أولاد ذكوراً. لكنَّ المشكلة أن الشيخ محي الدين لم يذكر أي لقاء له مع الملك شهاب الدين غازي، صاحب ميَّافارقين، وهو غير الملك غازي بن صلاح الدين الذي توفي سنة 613 هـ، والذي اجتمع به الشيخ في حلب وكانت له عنده مكانة كبيرة كما ذكر في الفتوحات المكية (ج3: ص472). كذلك فقد ذكر الشيخ في الفتوحات المكية (ج4: ص225) بعض لقاءاته مع الملك العادل، والد الملك شهاب الدين غازي، ولكنَّ هذه الإجازة لا يمكن أن تكون قد كتبت له لأنه توفي سنة 615 هـ، قبل كتابة الإجازة المؤرخة في دمشق سنة 632 هـ، ويرد فيها ذكر الكثير من الكتب التي كتبت بعد وفاة الملك العادل.

لكنَّ كلَّ هذه الإشكالات يمكن أن تزول بسهولة إذا عرفنا أن الشيخ لا شكَّ كان يعرف الملك شهاب الدين قبل تولِّيه المُلك، بعد وفاة أبيه، خاصة وأنَّه يذكر في الجزء الرابع من الفتوحات، في نفس الصفحة السابقة الذكر، أنّه كان حاضراً عند الملك العادل أبي بكر بن أيوب بميافارقين فرآه يمازح أولاده ويباسطهم حتى يُضحكهم، وقال إنّه كان يرى ذلك من جملة فضائله التي يعظم بها في عينه، وشَكَره على ذلك. فهذا يعني أن الشيخ محي الدين كان يعرف الملك شهاب الدين غازي قبل أن يتولى الملك، فلما صار ملكاً، وكان الشيخ وقتها في دمشق، ولم يستطع لقاءه بسبب الحروب الكثيرة التي كانت تنشب بين الأيوبيين، لذلك راسله هذا الملك وطلب منه أن يجيزه بالمراسلة، وهو معنى الاستدعاء الذي ذكره الشيخ في هذه الإجازة، وليس معناه الحضور أو اللقاء.

فقد تولى الملك شهاب الدين غازي ميافارقين سنة 617 هـ، وكان الشيخ وقتها بحلب، ثم استقرَّ في دمشق بعد سنة 620 هـ، وكان يحكمها الملك الأشرف موسى ابن الملك العادل سيف الدين أحمد، ولم يذكر الشيخ محي الدين أيَّ اجتماع به خلال مدة ولايته على دمشق، إلى أن توفى عام 635 هـ، وكذلك تنص الإجازة أن الشيخ كتبها للملك المجاز ولأولاده، في حين لم يخلِّف الملك موسى أولاداً ذكوراً. لذلك لا يصح قول المرحوم الأستاذ ميشيل شودكوفيتش، عميد معهد الدراسات العليا بباريس، في مجلة الدراسات الإسلامية، العدد 76 لعام 1992: "إنَّ الملك الذي كتبت له الإجازة على الحقيقة هو الملك الأشرف موسى ابن الملك العادل سيف الدين أحمد، لأنه كان بدمشق، وكان يحب العلماء والصالحين."

في الحقيقة، يزول كل هذا الخلاف بسهولة إذا عرفنا معنى قول الشيخ محي الدين في مقدمته: ". . . وكان استدعاؤه أن أذكر له من أسماء شيوخي ما تيسر لي ذكره منهم وبعض مسموعاتي وما تيسر من أسماء مصنفاتي، فأجبت استدعاءه." فهذا يعني أنَّ الملك المظفَّر شهاب الدين غازي "استدعاه" أن يكتب هذه الإجازة، وذلك بالمراسلة، لأنَّه كان لا شكَّ يعرفه أثناء وجوده في حلب وميارفارقين التي كانت تحت حكم أبيه الملك العادل، ولما تولى هو الحكم ولم يستطع لقاء الشيخ محي الدين استدعاه أن يجيزه بالمراسلة. ومن المعروف أنَّ هذا الملك المظفَّر كان من العلماء الزاهدين، الذين يحبون أهل الله، وهو أوَّل من سنَّ الاحتفال بالمولد النبوي كما نقل عنه ذلك ابن كثير وغيره. فالاستدعاء هنا لا يعني اللقاء وإنما طلب إرسال الإجازة.

ومعنى "الإجازة" مشتق من التجوُّز، وهو التعدي، أي أن المجيز يعدِّي روايته إلى المُجاز، وفي الاصطلاح: الإجازة هي أن ينقل الشيخ للطالب الإذن في الحديث عنه وإسناد ما لـه مـن روايـة، مستعملا في ذلك لفظاً من مشتقات لفظ الإجازة؛ لذلك نجد أنَّ الشيخ قد أكَّد بقوله "وتلفَّظتُ بالإجازة عند تقييدي هذا الخط، وذلك في غرة المحرم سنة اثنين وثلاثين وستمائة بمحروسة دمشق" مما يؤكِّد أنها كانت بالمراسلة، لأنَّه لم يستخدم أسلوب الخطاب المباشر، فلم يقل "أجزتك". فالإجازة بالأصل هي الإذن الشفوي من الشيخ إلى الطالب بروايـة بعض كتبه التي ألفها أو تحمَّلها عن شيوخه بالقراءة أو السماع أو الإجازة أو غير ذلـك مـن الطـرق، وكتابة الإجازة إنما يكون للتأكيد والتوثيق. فلمَّا كانت هذه الإجازة من غير لقاء فعلي بين المجيز والمجاز، أكّد الشيخ فيها أنّه تلفّظ بها، ولذلك أيضاً استخدم ضمير الغائب حين دعا للملك فقال "نفعه الله بالعلم، وجعلنا وإيّاه من أهله". والله أعلم.

كذلك مما يؤكِّد أنَّ هذه الإجازة لم تكن مشافهة بينه وبين الملك المظفَّر هو أنَّ الشيخ تعدّى بها إلى هذا الملك وإلى أولاده و"لمن أدرك إجازتي"، وذلك "على الشرط المعتبر بين أهل هذا الشأن"، وهو الصدق والإخلاص في النقل والرواية. من أجل ذلك نجد أنَّ الشيخ محمد ابن قيصر يقول في تعليقه، كما ورد في آخر نسخة الظاهرية 4679: "وقد قبلنا إجازته، فإنَّه قال في أول الكتاب أنه أجاز لمن أدرك إجازته"، ونحن نقول بدورنا أنَّنا قبلنا هذه الإجازة، ونسأل الله العزيز القدير أن يجعلنا أهلاً لحملها.