شمس المغرب - سيرة لأكبر محي الدين ابن العربي ومذهبه
شمس المغرب - سيرة لأكبر محي الدين ابن العربي ومذهبه

البداية
الجزء الأوّل
الجزء الثاني
الجزء الثالث
اتصل بنا
مرحبًا بكم في شمس المغرب ( يرجى الدخول أو التسجيل)
المقدمات
الفصول
المحتويات

2.2.17 - موقفه من المذاهب

ورغم أن هؤلاء الشيوخ الذين تتلمذ الشيخ الأكبر على أيديهم وتعلّم منهم كانوا في أغلبهم ينتمون إلى المذهب المالكي الذي كان شائعا في الأندلس في ذلك الحين، إلا أنه هو نفسه لم يكن يفضّل أيّ مذهبٍ فقهيٍّ محدّد، وذلك لأنه على الحقيقة يقول بأن باب الاجتهاد مفتوح وأنه يجوز الأخذ من جميع المذاهب التي قال بها العلماء وليس بالضرورة اتّباع مذهب معيّن بذاته، وهذا شيء منعه الكثير من الفقهاء الذين أوجبوا الالتزام بمذهب معين. وهذا الواقع يدحض قول الذين ينسبونه إلى ابن حزم ويقولون أنه ظاهريّ المذهب كما ذكرنا في نهاية الفصل الأول. ولكن على الرغم من أن الشيخ الأكبر يقبل بجميع المذاهب ويجيز الانتقال بينها طلباً للرُّخص إذا لزم الأمر، إلا أنه يندب إلى ويحثّ على الجمع بينها للخروج من الخلاف واتّخاذ الأحوط.[93]

ولقد أفرد الشيخ رضي الله عنه جزءاً كبيراً من الفتوحات المكية لتبيين الأحكام الفقهية الخاصة في أركان الإسلام، فذكر في كل حكم الآراء المختلفة ثم بيّن الرأي الذي يقول به هو من غير أن يُخطّئ بقيّة الآراء، ثم زاد فوق كل ذلك توضيح المعاني الباطنية لهذه الأحكام.[94]

ولقد أوضح رضي الله عنه أن أهل الكشف لا يحكمون بآرائهم بل بما كشف الله لهم، لأن أهل الكشف لهم الاطلاع على جميع المذاهبِ كلِّها والنِّحلِ والمِللِ والمقالاتِ في الله اطلاعاً عاماً لا يجهلون منه شيئا. فما تظهر نِحلةٌ من منتحل ولا مِلّةٌ بناموسٍ خاصٍّ تكون عليه ولا مقالةٍ في الله أو في كونٍ من الأكوان، ما تناقض منها وما اختلف وما تماثل، إلا ويعلم صاحب الكشف من أين أُخذت هذه المقالةُ أو الملّةُ أو النِحلةُ فينسبها إلى موضعها ويقيم عذر القائل بها ولا يخطّئه ولا يجعل قوله عبثاً، فإن الله ما خلق سماءً ولا أرضاً وما بينهما باطلاً ولا خلق الإنسان عبثاً بل خلقه ليكون وحده على صورته؛ فكلُّ مَن في العالم جاهلٌ بالكلّ عالمٌ بالبعض، إلا الإنسان الكامل[95]وحده فإنّ الله علّمه الأسماء كلها وآتاه جوامع الكلم.[96]

ولقد ورد في صحيح البخاري (كتاب الأقضية) عن عمْرو بن العاص أَنَّه سمع رسول اللهِ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: "إذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثمَّ أَصَابَ، فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ، ثمَّ أَخْطَأَ، فَلَهُ أَجْرٌ." فلذلك لا ‏ينبغي لنا أن نطعن في حكم مجتهد لأن الشرع الذي هو حكم الله قد قرّر ذلك الحكم، ‏فهو شرع الله بتقريره إيّاه، وهذه مسألة يقع في محظورها أصحاب المذاهب كلهم لعدم ‏استحضارهم لذلك مع كونهم عالمين به، ولكنهم غفلوا عن استحضاره، فأساؤوا ‏الأدب مع الله في ذلك حين فاز بذلك الأدباء من عباد الله؛ فمن خطّأ مجتهداً بعينه فقد ‏خطّأ الحقّ فيما قرّره حكما.[97]ومن هنا نجد الفرق الكبير بين انتقاد ابن العربي وأتباعه لمن خالفهم بالرأي وبين انتقاد ابن تيميّة وأتباعه لابن العربي وأمثاله كما سنرى في الفصل الأخير.