شمس المغرب - سيرة لأكبر محي الدين ابن العربي ومذهبه
شمس المغرب - سيرة لأكبر محي الدين ابن العربي ومذهبه

البداية
الجزء الأوّل
الجزء الثاني
الجزء الثالث
اتصل بنا
مرحبًا بكم في شمس المغرب ( يرجى الدخول أو التسجيل)
المقدمات
الفصول
المحتويات

2.2.15 - فترة اللهو والجاهلية

كما هو الحال مع أغلب الناس، وخاصة من تربّى في ظل الغنى والسلطان، فلا بدّ من قضاء أوقات في اللهو مع الأصحاب في حفلات الغناء والطرب، فبقدر ما ينغمس الإنسان في ذلك يبتعد عن الإسلام شيئا فشيئا حتى يخرج الإسلام من قلبه وعقله، وبعد ذلك إما أن يتوب ويعود للطريق القويم، وإما أن ينساه الله كما نسي هو ذكر الله، فيصبح من الخاسرين.

ويبدو أن ابن العربي قد مرّ في مثل هذه الظروف لبعض الوقت في فترة من مرحلة شبابه، لأنه يذكر مثل ذلك في رسالة روح القدس التي خصصها لمحاسبة نفسه وعرضها على الرجال الصالحين من الصحابة والأولياء، وتفنيد دعاويها وردّها إلى الحق. فيقول وهو يخاطب نفسه في رسالة روح القدس التي وجّهها من مكة المكرمة إلى صديقه التونسي عبد العزيز المهدوي: كم مرة سمعتُ آية من كلام الله فثقلت عليّ ومججتها، وكم والله رنّة شعر سمعتها فاستعذبتها! أخاف والله يا وليّي على نفسي وعلى من هو مثلي أن يُنقل اسمه من ديوان المؤمنين إلى ديوان من قال فيهم الحقّ جلّ وعلا [b]((وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [45]))[/b][الزمر].

ثم يقول إنه قد اتصف بهذا في السهرات التي كانت تُقام مع أصحابه على ما يبدو، فكان يستمع إلى القوّال (أي المغني أو المنشد) وهو يقول زخرف القول وغروره فيهتزّ ويقوم ويقول شاباش! هذا والله حسن! ويضيف أنه لا يزال الملعون شيطانه يرقّصه كما يفعل صاحب القرد بقرده، فإذا أخذ حاجته منه صفعه صفعةً فأضجعه فيقوم من قلّ فلاحه فيغطيه برداءٍ حتى يخلي سبيله ويقوم وهو يهنّئ نفسه وقد عزّاه الملأ الأعلى في دينه وفيما مضى من عقله. ثم في آخر الليل ينام هو وأصحاب السوء مثله وقد تعبوا من كثرة ما رقصوا فلا يكادون أن يأخذوا قليلا من النوم إلا والصبح قد أذّن، فيقومون ويتوضؤون بأقل ما ينطلق عليه اسم الوضوء ثم يذهبون إلى المسجد، هذا إذا وُفّق لذلك، وإلا فالأغلب على من هذه حالته أن يصلي في داره بـ"إنا أعطيناك الكوثر" وسورة الفاتحة كيفما كانت، والقنوت ليس بواجب فيتركه وينقرها مخفّفة جدّاً، ثم يضطجع إلى وقت الضحى ليستريح!

فيذكر الشيخ الأكبر ذلك ويقول لنفسه: "هيهات والله ما كانت طريق الله هكذا." ولكن هكذا كانت حالته في جاهليته هو وبعض أصحاب السوء. ويضيف أنه إن كان موفقا أكثر من غيره توضأ وخرج إلى المسجد وإذا دخل فيُقال له: قد صلى الناس! فلا يجد لذلك حزنا ولا يكترث بل يقيم الصلاة ويصلي وكأنه ما فاته شيء، لاهيَ القلب مسروراً، ويقول بلسان الحال: "قد حصل لي أجر الجماعة بقصدي وأراحني الله من تطويل الإمام."

ثم يضيف في رسالة روح القدس أنه بعد ذلك كان إن أدرك الصلاة مع الإمام فهو في تلك الصلاة على أحد وجهين: إذا كان مستريح القلب من كل شيء، يتذكر ليلته البارحة وحسنها وما كان أحسن ذلك القوّال وشعره، ويقضي صلاته كلها في هذا حتى لا يدري ما صلى الإمام ولا بما صلى، وإنما رأى الناس يفعلون شيئا ففعل مثلهم؛ ركعوا فركع وسجدوا فسجد ووقفوا فوقف وجلسوا فجلس. أما إذا كان تَعِباً نَعِساً فيترقّب عند ذلك فراغ الإمام وتثقل عليه القراءة ويغتاب الإمام في نفسه ويمقُته ويقول: "ما أثقله قد افتتح سورة الحشر أو الواقعة، هلاّ كان قنع بالانفطار والفجر، والنبي صلّى الله عليه وسلّم قد أمرنا بالتخفيف، هذا خلافُ السنّة، ويحوقل ويهلل، كل ذلك لغير الله."[88]

فيبدو أن مثل هذه الحال قد مرّت على ابن العربي، وربّما هذه هي الفترة التي يقول إنه قد مرّ بها. والفترة في التصوّف هي مرحلة لا بدّ منها ولكنها قد تطول وقد تقصر وقد ينكص فيها المرء على عقبيه فلا تقوم له بعد ذلك قائمة. وتحصل الفترة عادة بعد الفتح كما سنرى بعد قليل.