شمس المغرب - سيرة لأكبر محي الدين ابن العربي ومذهبه
شمس المغرب - سيرة لأكبر محي الدين ابن العربي ومذهبه

البداية
الجزء الأوّل
الجزء الثاني
الجزء الثالث
اتصل بنا
مرحبًا بكم في شمس المغرب ( يرجى الدخول أو التسجيل)
المقدمات
الفصول
المحتويات

2.8 - سياحته في الساحل ولقاؤه بالرندي (شذونة، 589/1193)

بعد ذلك بدأ الشيخ محي الدين رحلة جديدة إلى الساحل جنوبي غرب الأندلس بهدف الاجتماع برجال الله الذين عادة ما يسيحون في تلك المناطق الجبلية، وهناك التقى برجل مشهور من رجال الله اسمه أبو عبد الله محمد بن أشرف الرندي، وهو من الأبدال، وهو الذي ذكرناه أعلاه أنه دخل على عبد المجيد ابن سلمة في خلوته.

ويروي الشيخ محي الدين في "روح القدس" قصة لقائه بالشيخ ابن أشرف الرندي فيقول إنه خرج مرة من مدينة شذونة يريد الساحل، فتبعه شاب لا نبات بعارضيه يريد صحبته فأخذه معه. وفي الطريق وجد أمامه شخصان، الواحد أسمر طويل يقال له عبد السلام السائح يجول في الأرض لا يقرّ به قرار،[259]ومعه آخر يقال له محمد بن الحاج، وكانا يمشيان مشيا سريعا. ومع ذلك فقد لحقهما الشيخ محي الدين وكان بينه وبينهما عدة أميال، فمرّ عليهما مستعجلا، وكان يوم جمعة، فأوى إلى قرية "روطة"[260]من أجل صلاة الجمعة. فدخل الشيخ محي الدين إلى مسجد الجماعة وركع ركعتين، فلم يلبث أن جاء أبو عبد الله بن أشرف الرندي، فلما دخل قام إليه ذلك السائح عبد السلام وصاحبه فسلما عليه وعرفه، وكان الشيخ محي الدين مضجعا في الجامح وهو يضرب بيده على صدره ويغني شعرا:

ضاحكٌ عن جُمانٍ|ضاق عنه الزمانُ

سافرٌ عن بدرِ|وحواه صدري

فجاء إليه الشيخ الرندي وقال له: أتريد أن تستر نفسك؟ فقال له ابن العربي: وكذلك تفعل أنت؟ فكان كذلك.[261]

ثم أقبل شيخ القرية إلى الشيخ محي الدين ورغب أن يفطر عنده هو ومن شاء، فقال له ابن أشرف: لا تأكل من هذا الطعام شيئا واحمل جميع الفقراء فإذا أكلوا تأتي وتفطر معي. فكان ذلك.

فقال الشيخ محي الدين إنه أقام معه ثلاثة أيام ووعده أن يلقاه بإشبيلية، وأخبره بأمور كثيرة وبكل ما يتفق له من بعد مفارقته فحصل كما قال حرفا بحرف.

وسوف نعود إلى قصة وعده بلقائه في إشبيلية في بداية الفصل الثالث، ولكن لنذكر هنا بعض صفات الشيخ الرندي كما ذكرها الشيخ محي الدين. فيقول عنه أنه من الأبدال ويسميه شيخ الجبال والسواحل لأنه انقطع بالجبال والسواحل لا يأوي إلى معمور قرابة ثلاثين سنة. وكان قويّ الفراسة، كثير البكاء، طويل القيام، دائم الصمت، كثيرا ما ينكت بأصبعه في الأرض مطرقا متفكرا، يرفع رأسه فيتنفس الصعداء ولصدره أزيز، شديد الوجد، غزير الدمعة. وكان له مرتبة عالية وعنده مال وافر خرج عنه. ويقول الشيخ محي الدين أن سبب شهرته أنه كان كثيرا ما يقعد في جبل شامخ على مورور فمشى بعض الناس إليه لحاجة فرأى عمودا من نور يتشعشع ولا يستطيع النظر إليه فقصده فوجد ذلك النور صاحبنا أبا عبد الله وهو قائم يصلي فأشهره.

عاشره الشيخ محي الدين زمانا وكان الرندي يفرح به ويستبشر حين يراه. سأله يوما بالساحل عن قوله تعالى: "لا أريد منهم من رزق" فلم يجبه الشيخ محي الدين وتركه، ثم اجتمع به بعد ذلك بأربع سنين فقال له: يا أبا عبد الله! قال: نعم. قال: خذ جوابك! قال: هات بعد أربع سنين وصل الوقت. فأجابه الشيخ محي الدين عنها.

وسأله الشيخ محي الدين عن سبب بكائه فقال: آليت أن لا أدعو على أحد، فأغاظني رجل فدعوت عليه فهلك، فندمت على ذلك إلى الآن.[262]

وكعادته سوف يحرص الشيخ محي الدين أن يعرّف صاحبه بدرا الحبشي على الشيخ الرندي وسوف يحصل ذلك بعد عودتهما من مدينة فاس على ما سنرى في الفصل الثالث إن شاء الله تعالى.